خيوط الروح

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 17 ديسمبر 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

الشعر الغجرى المجنون، الذى تغنى به عبدالحليم، خيوطه ممدودة إلى السماء. يحمل ذاكرة وقوة تجعل المرأة أشبه بشمشون فى جبروته وجاذبيته. شعرها كان يتحدث عنها: «أنا بأتنفس حرية، لا تمنع عنى الهوا»، كما تقول أغنية لجوليا بطرس.

اسمها وارد أن يكون: جميلة.. غزل.. زينة.. فريدة.. أو فاطمة. وأجمل ما فيها شعرها الذى تنثر خصلاته بزهو ونشوة لتصل إلى عنان السماء. وأنا أنظر إليها وهى تسير كغيرها فى الشارع، ثم تدخل المحل، دون معرفة سابقة، أو أنظر إلى صور غيرها من اللائى وافتهن المنية فى انفجار الكنيسة البطرسية، قبل أن يتراصين فى توابيت خشبية يحملها الرجال على الأكتاف ويسير الناس خلفها، لفت انتباهى شعر النساء. وربما فضلت أن أصب عليه جم تركيزى فلا أفكر فى أشياء أخرى. أراقب كيف بدت بعض النسوة فى العزاء، متلفعات بالسواد، حاسرات الرءوس، مبعثرات الشعر، تدل طريقة تصفيفه على حزن بالغ وعميق. حاله تبدل ليعبر عن فجيعتها ويحمل ذاكرتها. ستظل صورتها بهذا الشكل محفورة فى الأذهان، وشعرها مهزوم ككلها.

***

سألت نفسى لماذا لا تكتب النساء عن شعرهن، وهو من أقرب ما يلازمهن مدى الحياة؟ فهن لسن كالرجال الذين يصاب منهم الكثير بالصلع مع العمر، أما السيدات فالقليل منهن يفقدن شعرهن ويتساقط بالقدم. لماذا لا تكتب النساء كيف يحمل الشعر ذاكرتهن الخاصة وكيف يعبر عن حالتهن النفسية وعلاقتهن بالمجتمع؟ متى أطلقته؟ متى قصته؟ متى اضطرت لتغطيته؟ متى اقتنعت بذلك؟ ومتى تمردت؟ ما الذى تشعر به حين تتركه محلولا وحين تضع الإيشارب فوقه لتصلى أو تخرج؟ ما الفارق بين الحالتين، إذ ما كان هناك إحساس مختلف؟ لماذا لم أجد فى مكتبتى أعمالا عن شعر النساء؟ ولماذا كلما بحثت على الإنترنت باللغة العربية لا أجد سوى أبيات شعر وغزل فى وصف النساء أو فتاوى عن غطاء الشعر أو حكم قص الشعر إلى شحمة الأذن؟ لماذا لا يوجد ما هو أعمق وأكثر خصوصية وصراحة؟ لماذا لم أعثر على نصوص تحكى فيها مصريات عن الشعر المجعد الذى تحاول أن تسيطر عليه أو تغير طبيعته بالفرد أو إضافة مواد كيمائية لتمليسه؟

***

هناك سرديات بديعة ممكن أن تروى عن شد الشعر وجذبه للخلف، عن خلطات ووصفات الزيت التى تفوح روائحها وتنطبع على الوسائد، عن «طاقية» الشعر التى تجعله يلتف بمحاذاة الرأس أعلى الجبين، وهى طريقة تصفيف لم أرها فى مكان آخر، عن برم الشعر فى هيئة ذيل حصان طويل، أو عن «الكحكة» التى تطور مع الوقت لتصبح «شنيون» أنيقا.

لم تحك نساء بلدى عن علاقتهن بشعرهن وتموجاته أو عن الغرة التى تصر بعض الأمهات أن تقصها لطفلاتهن فى البيت، فتميل اليد لتنحرف الغرة قليلا وتصبح طويلة من جنب وقصيرة من آخر، فالكثير لديهن يظل غير مروٍ ومسكوت عنه. لا يقارن أنفسهن بآلهة الإغريق وشعورهن الطويلة التى صارت رمزا للأنوثة والإغواء عبر العصور، ولا يتناولن تاريخهن الشخصى فى الفترات التى كان فيها قص شعر المرأة ممنوعا فى أوروبا لسنوات طويلة، ويعد إذلالا وإهانة أو نوعا من أنواع البتر، ثم كيف تطورت الأمور فى غضون الحرب العالمية الأولى وبداية عمل المرأة فى المصانع.

لا يجرؤن على الاقتراب علنا من ذاكرة الشعر، فى حين له لغته الخاصة فى التعبير التى تشى بالكثير حول خجل المرأة ومكرها وشبقها وثقتها بالنفس أو عدم قبولها لذاتها أو تصالحها معها ومع ما حولها، إلى ما غير ذلك. عندما تجلس لتمشط شعرها، هى تعرف متى صارت زوجة لرجل لا يبتسم، ومتى خطه الشيب، ومتى قصته تبرما أو حزنا على قصة حب انتهت، ومتى أرادت أن تبعث من خلاله رسالة أو أن تعاقب نفسها من خلال تسريحة صارمة، ومتى قررت أن تتركه على سجيته وأن تتصالح معه. خصلاته هى بمثابة خيوط للروح، تركتها دون تشذيب أو إصلاح أو رغبة فى السيطرة، فارتاحت وبلغت مرتبة أعلى من النضج.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved