درس من الماضى حفاظًا على البيئة

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: السبت 17 ديسمبر 2022 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

منذ عدة سنوات اتفقت مع عائلتى أن نقضى العيد فى إحدى قرى شمال مدينة سفاجا السياحية ولسوء حظنا كان الجو حارا للغاية مع رياح محملة بالأتربة الناعمة. خرجنا نستطلع الأماكن الأخرى إلى الجنوب حتى وصلنا لمنطقة يصل فيها نبات المانجروف قريبا للغاية من الطريق السريع. ونظرا لشغفى القديم والمستمر بهذا النبات توقفنا ونزلت أنا وأولادى لنستكشفه عن قرب ولاحظت وجود قرية سياحية تطل على هذه الغابة الصغيرة من النبات المعجزة (لهذا النبات فى مصر نوعان أحدهما أكثر انتشارا والاسم الأجنبى له منسوب للعالم العربى العظيم ابن سينا يتكاثر عن طريق بذرة تسقط من الشجرة مباشرة للمنطقة المحيطة، والآخر الذى ينمو فى منطقة شلاتين له بذرة طويلة عندما تسقط يحملها الماء حتى تصل إلى مكان تغرس نفسها فى أرضه وتبدأ فى النمو)، ولكى يستطيع هذا النبات العيش فى مكان ليس به إلا ماء شديد الملوحة فهو قادر على التخلص من تلك الملوحة والتى تعد قاتلة لأغلب أنواع النباتات الأخرى.
دفعنى الفضول للالتفاف والدخول للقرية، ولأن درجة الحرارة فيها بدت أقل بصورة معقولة من المكان الآخر (أدركت بعدها أن هذا ربما يرجع فى جزء منه لكثافة الأشجار بها) قررنا بسرعة أن نقضى يومين فيها. كنت كعادتى أصحو وأخرج من غرفتى حتى أنتظر شروق الشمس كل يوم، كما أننى كنت أقطع المكان الصغير نسبيا عدة مرات كل يوم ليس فقط على الأرض ولكن فى البحر أيضا. وفى نهاية اليومين ونحن نستعد للمغادرة خطر ببالى أن أسأل عن صاحب القرية ولحظى السعيد كان موجودا فسألته عن منسق الموقع الذى نفذ له زراعة النباتات والأشجار فى القرية؛ لأن انطباعى أنه فى الغالب كان أجنبيا ومتميزا فلم أرَ مثل هذه الأفكار اللطيفة والأنواع والتوزيع مع غياب كامل للحشائش الخضراء التى يستعملها العديد من القرى لإعطاء أماكنهم طبيعة خضراء. لدهشتى أجابنى بأنه هو من قام بعمل ذلك وحكى لى كيف أنه كان معجبا بالنخل الذى رآه فى تاهيتى والذى ينمو على الماء المالح فقرر إحضاره وزراعته، وبالرغم من أنه ليس نباتا أصليا للمكان لكن المرء يشعر لوهلة ــ بالقرب من غابة النخيل تلك الموجودة على البحر ــ أنه فى مكان آخر أو عالم آخر. حكى لى أيضا كيف أنه قام بإكثار نبات المانجروف فى أحد الأماكن على شاطئ القرية وهو الآن فى كامل نموه وآخذ فى التكاثر تلقائيا. لم يكن ردى إلا أننى أرفع القبعة لهذا العمل الذى رأيته وما زلت أنه رائع.
• • •
لفت نظرى أثناء إقامتى الحمار وعربة الكارو التى تحمل أنابيب الأوكسجين للغطاسين التى تتردد بين مكان ملء الأنابيب وبين آخر منطقة فى اللسان الخشبى الممتد فى البحر والذى منه يأخذ الغطاسون الأنابيب. كان الحمار وصاحبه عم محمود يقومان بهذه الرحلة عدة مرات فى اليوم بهدوء يكاد يكون تاما وبلا أى تبرم أو انزعاج بادٍ على أى منهما. لفت نظرى أيضا أن للحمار بيتا فى وسط غابة النخيل والأشجار المطلة على البحر ولا أدرى إن كان الحمار يشعر أم لا أن بيته أو حظيرته البسيطة ربما لديه أفضل مطل على البحر فى القرية.
أصبح هذا المكان من أكثر أماكن البحر الأحمر تفضيلا بالنسبة لى ولعائلتى وكلما كانت هناك فرصة للتوصية لمكان للزيارة والاستمتاع بالبحر كنت أوصى به بلا تردد بل كنت أصحب الأصدقاء والضيوف لزيارة المكان والتعرف بأنفسهم على طبيعته الفريدة.
ومنذ أسابيع قليلة وبينما كنت أصطحب طلبتى لزيارته، لأننا كنا نقوم بدراسة عن مدينة القصير القريبة، لاحظت غياب الحمار وسألت عنه فجاءنى الرد أن صاحب القرية قد توفى منذ أشهر قليلة وتولى إدارة القرية شخص آخر وقرر للأسف الاستغناء عن الحمار كما قرر الاستغناء عن المهندس الزراعى الذى كان يتولى زراعة الأشجار وصيانتها منذ بناء القرية وتشغيلها قبل أكثر من خمس وعشرين عاما. انزعجت كثيرا لأننى كنت أرى وجود الحمار وعربته علامة على التقدم والحساسية ناحية البيئة ومكوناتها لا العكس وأخشى أن يكون هذا التغيير بداية للسير فى اتجاه غير محمود للمكان كله.
• • •
ما خفف انزعاجى قليلا أننى علمت أن عم محمود القادم من إحدى قرى محافظة قنا القريبة قد أحضر عربة نقل خاصة للحمار كلَّفته مبلغا كبيرا، وأن الحمار يعيش معه فى سلام فى داره. لم يدهشنى ارتباط عم محمود بالحمار وفهمت أكثر عمق تلك العلاقة عندما سمعت فى إحدى البرامج الوثائقية عمن يقومون بحماية الكائنات الحية تلك المقولة الرائعة أنه «يبقى جزء من روح الإنسان غير يقظ حتى يحب حيوانا» (أناتول فرانس فائز بجائزة نوبل).
عرفت أيضا أن فكرة إحضار الحمار هى للكابتن المصرى الذى يدير مركز الغوص ولا شك أن سماح صاحب القرية لهما بإبقاء الحمار وإعطائه ذلك المكان الرائع المظلل والمطل على البحر كان نابعا من نفس حساسة ومحبة للطبيعة بكل كائناته وأطيافها وهذا بالطبع يتسق مع كونه فنانا وإن لم يحظ بشهرة كبيرة.
أتمنى للإدارة الجديدة للقرية وللإدارة فى أى مكان أن تكون قادرة على التعلم ممن سبقوها وأن تضيف ولا تنقص ولكن هذا بالقطع أسهل فى الكتابة والقول عنه فى العمل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved