النقاش المصرى حول مذبحة باريس

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 18 يناير 2015 - 7:45 ص بتوقيت القاهرة

فى تناول المعلقين المصريين لمذبحة يوم السابع من يناير الحالى فى باريس والتى استهدفت فى الأساس عددا من رسامى الكاريكاتير الفرنسيين، تتعدد معايير الحكم وتتداخل وتتعقد لأن لكل معلق قضية لها الأولوية لديه. وليس فى ذلك قدر كبير من الغرابة، فالمذبحة أثارت، وهى تثير بالفعل عدة قضايا فى الوقت ذاته.

كل المعلقين المتخصصين فى التعليق أدانوا عملية الهجوم على مجلس تحرير مجلة «شارلى إبدو» وقتل من قتل من رساميها فضلا على غيرهم من العاملين فى المجلة وشرطيين لاعتبارات إنسانية. غير أن عددا من المعلقين المصريين، فى مصر وخارجها، توقفت إدانته عند هذا الحد، وأخذوا يثيرون بعد ذلك مسائل مثل الكيل بمكيالين والتهجم على العرب والمسلمين ومعتقداتهم وحدهم، وأشاروا إلى أن عملية الهجوم ارتكبها فرنسيون ضد فرنسيين آخرين على أرض فرنسا، فهى بذلك تعكس مشكلة اجتماعية فرنسية لا شأن للعرب ولا للمسلمين الذين يعيشون فى بلدانهم الأصلية بها. بل ذهب هؤلاء إلى أن كل من يتصدون للهجوم بالتعليق عليه من خارج هذا الإطار التحليلى ويعبرون عن الأسف على القتلى يعتنقون منطق الاستشراق وإن كانوا بلسان عربى، وهم أشخاص يشعرون بالدونية تجاه الآخر «الغربى». ومن هؤلاء المعلقين من رأى نفاقا فى مشاركة ممثلين لدول عربية تقمع مواطنيها وتريق دماءهم فى مسيرة باريس من أجل حرية التعبير.

•••

على الجانب المقابل، رأى بعض المعلقين فى التشفى الذى صبغ تغطيات إعلامية مصرية نكهات «داعشية» وغفلة عن آثار المذبحة على ظروف حياة ملايين المسلمين الذين يعيشون فى «الغرب». تساءل هؤلاء المعلقون، مستنكرين، إن كان فعل المذبحة يصب فى مصلحة الإسلام أم أنه تشويه للدين وتنفير للبشرية منه. ورأى هؤلاء المعلقون أن الفكر المتطرف جرثومة أصابت الأمة لتزرع الخوف والفزع فى قلوب غير المسلمين، وأنه عائق أمام المستقبل يهدد الشعوب ويجهض التحول نحو الديمقراطية، وأضافوا أنه لا بد من التوقف عن خلق أجيال جديدة من الإرهابيين. ومن هؤلاء المعلقين من ذهب إلى أن الأزمة هى أن قطاعات عديدة من العالم الإسلامى لا تزال تدير صراعاتها بمنطق القرون الوسطى. فى نظر نفر من هذا الفريق طريق الحل ليس فى خوض معركة بين النصوص والفتاوى والفتاوى المضادة، بل هو يبدأ من زماننا ومن حصيلة تطور الحضارة المتمثلة فى قواعد أخلاقية وإنسانية مستقرة تنظم حياة الإنسان وتحمى حقوقه، وهو طريق ينبغى أن يمرّ عبر القضاء الفعلى على التمييز الدينى فى مصر نفسها.

فى النقاش ثارت إذن قضايا الإرهاب، واحترام المعتقدات الدينية، وحرية التعبير، والمهاجرين العرب والمسلمين واندماجهم فى المجتمعات التى يعيشون فيها، والاستشراق، والتطرف الفكرى، وعلاقة سكان العالم بعضهم ببعض، وقيمة الزمن وما ينتجه من ثقافة وقواعد للتعايش، والقضاء على التمييز، وبناء الديمقراطية. النقاش حول المذبحة تعدى المذبحة ذاتها ووصل إلى قلب الأحوال المصرية والعربية فلا يمكن بالتالى الادعاء بأنه لا يخص إلا فرنسا وحدها.

هل يمكن الانغلاق على الذات والقول بأن البعض فقط من هذه القضايا هو الذى يعنينا دون غيره؟ أليس هذا فى حد ذاته انتقاص من شأننا؟ تقسيم العالم إلى اثنين غير متصلين هو الاستشراق عينه. نحن معنيون بقضايا العالم مثلما العالم معنى بقضايانا. الدول والمجتمعات لا تعيش فى صوامع منغلقة على نفسها. نحن فى عالم القضايا عبر الوطنية أكثر بمراحل فيه من القضايا الوطنية البحتة.

•••

الإرهاب كوسيلة لحسم للصراعات السياسية لا بد أن يدان تماما، وهو على أى حال وسيلة فاشلة تنقلب على من يمارسها. من جذور الفكر الإرهابى الاعتقاد فى إمكانية فرض الإجماع وإسكات كل صوت مخالف وهو ما يتفق فيه، يا للسخرية، مع الفكر السلطوى المعادى للتعدد. هذا الاعتقاد وهم، وفشل الإرهاب فى مبتغاه واضح فى حالة الاعتداء على صحفيى شارلى إبدو. من مجلة هامشية تطبع ستين ألف نسخة ذات جمهور محدود للغاية، فى الأسبوع التالى لاعتداء باريس، طبعت شارلى إبدو خمسة ملايين نسخة واطلع الملايين بل عشرات الملايين عبر التلفزيون على المادة التى وردت فيها.

وألا يهمنا مصير العرب والمسلمين الذين يعيشون فى «الغرب»؟ خمسون اعتداء على مساجد وأماكن عبادة إسلامية فرنسية وقعت فى الأسبوع التالى لحادثة السابع من يناير. أى إنجاز هذا الذى حققه للإسلام والمسلمين الإرهابيان الفرنسيان المسلمان بفعلتهما النكراء؟

احترام معتقدات الآخرين، المسلمين فى بلدان غيرهم وغير المسلمين فى البلدان ذات الأغلبية المسلمة، والمساواة الفعلية وعدم التمييز، وحرية التعبير، قضايا عظيمة الأهمية ينبغى خوضها بعزم وفقا للقواعد المتفق عليها للسلوك السياسى، ولكنها قضايا ينبغى فصلها فصلا تاما عن الإرهاب.

المشترك بين الناس كثير وهم يعيشون فى عالم واحد. كيف يمكن الفصل بين الناس والتعرف على هوية كل واحد فيهم، وكأن الهويات خالصة؟ ألم يقتل شرطى فرنسى مسلم بدم بارد برصاصات واحد من الإرهابيين؟

وكما أننا لسنا مثالا براقا على المساواة وعدم التمييز بين الناس، فإن غيرنا ليس مجرد صورة قاتمة للتمييز والعنصرية وحدهما. فى فرنسا، ومنذ الساعات الأولى حرصت السلطات الفرنسية على التشديد على عدم نسبة الجريمة إلى الإسلام ولا إلى المسلمين، وعلى أن الإسلام برىء منها. وطمأن رئيسا الجمهورية والوزراء المواطنين الفرنسيين المسلمين على أن الدولة تحميهم وأرسلا قوات أمن لحماية مؤسساتهم الدينية وغيرها. وحزب الأغلبية استبعد زعيمة الجبهة الوطنية العنصرية الكارهة للإسلام والمسلمين من الدعوة إلى المشاركة فى التظاهرة المساندة لحرية التعبير. وقبلها، فسخت محطة للإذاعة عقدها مع صحفى فرنسى مشهور بعد صدور «خضوع»، كتابه العنصرى الكريه. وفى ألمانيا، ارتفع صوت «باجيدا» الحركة العنصرية المناهضة للإسلام وللمسلمين وسيّرت مظاهرة من مؤيديها، إلا أن مظاهرات بلغ كل منها خمسة أمثال حجم مظاهرة «باجيدا» على الأقل خرجت فى عدة مدن ألمانية لمناصرة المسلمين، وسارت المستشارة الألمانية ذاتها فى مظاهرة منها فى برلين وأعلنت أن «الإسلام جزء من ألمانيا».

•••

لأن المشترك كثير ولأن العالم واحد، ولأن الحياة والبشر أى بشر، ليس فيهم شر مطلق ولا خير بحت، فلنجمّع الخير لدينا ولدى غيرنا لنشيد به جسرا نحارب من فوقه التطرف والتمييز والعنف والإرهاب فى كل مكان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved