تسييس لقاحات كورونا

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 18 يناير 2021 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

مثلما انجرف وباء كورونا، فورالإعلان عن ظهوره مطلع العام الفائت، إلى حلبة الصراع العالمى إثر تبادل كبار الفاعلين الدوليين للاتهامات بشأن المسئولية عن تفشيه، وتورط أجهزة الاستخبارات فى تخليقه ضمن سياق الحرب البيولوجية، وصولا إلى الترويج لأطروحة تبوؤ الدولة الأمضى فى تجاوز الجائحة، بأمان واقتدار، لمقعدها فى صدارة عالم ما بعد كورونا، لم تسلم اللقاحات المكتشفة لعلاج فيروس «كوفيد ــ 19» المستجد هى الأخرى من لعنة التوظيف السياسى المغرض.
ففى خضم حملته الرئاسية، التى عاب عليه خصومه استغلال الجائحة خلالها لأغراض انتخابية، اتهم الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته ترامب، شركات الأدوية الكبرى بالتآمر عليه عبر تعمدها تأخير الإعلان عن اكتشاف لقاح كورونا حتى تضع المعركة الانتخابية أوزارها بغية حرمانه من إنجاز علمى يعزز موقفه التنافسى. أما على المستوى الدولى، فقد تحققت نبوءة مجلة «الإيكونوميست» بانزلاق كبريات الدول والشركات إلى أتون سباق محموم لإنتاج وامتلاك اللقاح طلبا للربح وطمعا فى المكانة العالمية. فبعدما لم تتورع دول العالم عن التكالب على اقتناص مواد التعقيم والتجهيزات الطبية فى مستهل ظهور الوباء، إذا بها اليوم تتخاطف لقاحاته المضادة.
فى خضم التحديات الجمة التى تحيط بعملية الإجازة الصحية للقاحات المكتشفة، إن لجهة نسبة ومدة فعاليتها، أوسلامتها، وثبات تحصينها، وإثبات التعافى بها، وإمكانية تصنيعها وتخزينها، فضلا عن عدالة تسعيرها وتوزيعها بين شعوب العالم، تؤكد جامعة «ديوك» الأمريكية أن بلوغ مناعة القطيع الكفيلة بتقويض الوباء عالميا، يقتضى تلقيح 70 % من سكان الأرض بأكثر من 10 مليارات جرعة، يستغرق تصنيعها دهرا، بكلفة تفوق 100 مليار دولار، فى الوقت الذى يدق «تحالف لقاح الناس»، ناقوس الخطر جراء تعذر حصول الدول الفقيرة على حصتها من اللقاحات، مع استئثار نظيراتها الغنية، التى لا تمثل سوى 14 % فقط من سكان العالم، بما يناهز 4 مليارات جرعة، تعادل 53 %من المخزون العالمى المتاح، فيما لم يتلق فقراء الكوكب سوى 1.6 مليار جرعة فقط. وبينما تتعلق آمالهم بجهود «كوفاكس»، التى تضم 172 دولة معنية بإمدادهم بمليارى جرعة نهاية العام الحالى، لن يكون بمقدور الآلية، التى امتنعت الولايات المتحدة عن الانضمام إليها بعدما رفضت تزويد غير الأمريكيين بلقاحاتها، سوى توفير 20 % من الاحتياجات اللقاحية لسكان العالم النامى، تتيح لسبعين من دوله تطعيم واحد فقط من كل عشرة مواطنين.
تطلعا منها للحاق بزمرة الدول الرائدة فى مجال صناعة الأدوية، ومعالجة الخلل التكنولوجى المزمن المتمثل فى تركيزها على التصنع العسكرى منذ الحقبة السوفيتية على حساب مجالات مدنية حيوية، كصناعة الأدوية، انتزعت روسيا قصب السبق بإعلانها فى أغسطس الماضى إنتاج أول لقاح ضد كورونا، اسمته «سبوتنيك ــ فى»، تيمنًا بإطلاق الاتحاد السوفيتى السابق لأول قمر اصطناعى يغزو الفضاء عام 1957. ورغم إشادتها بنتائج تجاربه السريرية، مؤكدة تجاوز فعاليته 95 %، أبدى علماء غربيون قلقهم إزاء ضيق دائرة اختبار ذلك اللقاح، وعدم نشر البيانات الخاصة بتصنيعه واختباره، فيما اتهمت دوائر غربية قراصنة روس بالسطو على أبحاثهم اللقاحية. وبعدما أعلنت تلقيها طلبات لتوفير 1.2 مليار جرعة من لقاحها، أقرت موسكو بعدم قدرة طاقتها الانتاجية على تخطى مليونى جرعة فقط، فى الوقت الذى يحتاج مواطنوها 145 مليونا، ما اضطرها لإشراك دول كالهند والصين والبرازيل وكوريا الجنوبية، فى تصنيع «سبوتنيك ــ فى» للوفاء بالتعاقدات المتزايدة.
أما الصين المتهمة بالتسبب فى نقل وانتشار وباء كورونا فى أصقاع المعمورة، فقد انبرت فى تطوير أربعة لقاحات لإنتاج ما يربو على مليار جرعة توسلا لتبييض وجهها أمام العالم. وخلافا لترامب الذى جعل توزيع لقاحات بلاده حكرا على مواطنيها، تعهد نظيره الصينى بتبنى «دبلوماسية اللقاح» بحيث تكون لقاحات بلاده منفعة عالمية عامة فى متناول الدول الفقيرة. ومن ثم، شرعت بكين فى إبرام عقود التصدير وتدشين منصات الإنتاج وبناء مستودعات التخزين حول العالم، مستهدفة استثمار اللقاح لتسوية خلافاتها الجيوسياسية مع الفلبين وماليزيا، اللتين تنازعانها مناطق ببحر الصين الجنوبى، علاوة على بورما ولاوس وكمبوديا وتايلاند وفيتنام، التى تتشاطأ معها ضفاف نهر ميكونغ ويتميزون غيظا جراء الجفاف الناجم عن توسع بكين فى بناء السدود عليه. وبعدما وعدت بمنح قروض بقيمة مليار دولار لدول أمريكا اللاتينية لتمكينها من استجلاب لقاحاتها، تتوقع الصين أن تحقق طرق حريرها الصحية مبيعات تتخطى 2.5 مليار يورو من تلك اللقاحات.
بدورهما، هرع النظامان الإيرانى والتركى لابتداع نصر علمى يستثمرانه لتحسين وضعهما السياسى المتأزم داخليا وخارجيا. فبينما أعلنت إيران تعاونها مع كوبا، التى أعادت إدارة ترامب مؤخرا إدراجها على القائمة الأمريكية السوداء لـلدول الداعمة للإرهاب، فى إنتاج لقاح مشترك وشيك، يعينهما على تحدى العقوبات الأمريكية المفروضة عليهما، ويخولهما نقل التكنولوجيا، وجنى عوائد اقتصادية، حاول الرئيس التركى، الذى احتلت بلاده المركز السابع عالميا فى معدلات الإصابة والوفيات بكورونا، أن ينسب لها إنجاز زوجين ألمانيين من أصول تركية، بعدما توصلت شركتهما «بيونتيك»، بالتعاون مع شركة «فايزر» الأمريكية، لإنتاج لقاح تتجاوز فعاليته 90%، حتى منحتهما صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية لقب شخصية العام 2020، غير أن الزوجين أحبطا تلك المحاولة عبر إيصادهما الأبواب فى وجه الرئيس التركى.
بقدر ما يبعث الترويج للقاحات كورونا على التفاؤل بانحسار الجائحة، بقدر ما يسلط الضوء على أزمة الثقة المزمنة التى تخيم على النظام الدولى، حيث تمخض تسييس اللقاحات عن تقويض ثقة الناس فيها. فعلاوة على نظرية المؤامرة وما أشيع عن تخليق الفيروس ولقاحاته بغرض تقليص عدد سكان العالم، أو التحكم فى الجينوم البشرى، ثم ادعاء الوكالة الأوروبية للأدوية تعرضها لقرصنة إلكترونية تستهدف تبديد ثقة الناس فى اللقاحات، مرورا بالرفض المنبعث من تأويلات دينية، أو طروحات فلسفية كالاعتقاد الكانطى بأن اللقاح ينقل سمات حيوانية إلى الإنسان، أو تحركات علمية ممثلة فى إصدار رافضى اللقاح لدورية علمية عام 1876، وتشكيل جمعية «أطباء ضد التطعيم» عام 1901، أثار التنافس فى أسبقية إنتاج اللقاحات والتسرع فى إجازتها، تساؤلات حول فعاليتها وسلامتها، خصوصا مع منح بعض الدول حصانة قضائية للشركات المنتجة لها، بقصد تشجيعها على إنتاجها وتوزيعها دونما تكبد لخسائر أو دفع لتعويضات.
وبرغم إجازة موسكو وبكين للقاحاتهما، بعد إشادتهما بفعاليتها ومأمونيتها، شككت دوائر علمية غربية فى نجاعة تلك اللقاحات، استنادا إلى عدم نشر البيانات والنتائج الخاصة باختباراتها وتجاربها السريرية، إضافة إلى غياب الشفافية المطلوبة، وافتقاد روسيا لإرث زاخر فى مجال صناعة الأدوية، إضافة إلى ترسخ صور ذهنية سلبية عن الخبرات الدوائية الصينية انطلاقا من سوابق مؤلمة، كالفضائح الخاصة بترويج بكين لقاحات غير مطابقة للمواصفات فى عام 2018، وتأكيد التجارب الطبية السريرية التى أجراها خبراء فى البرازيل قبل قليل عدم تجاوز نسبة فعالية اللقاح الذى طورته شركة «سينوفاك» الصينية 50.4% فقط، فيما تقاعست بكين عامى 2002 و2003، شهورا عن إعلان تفشى وباء «سارس»، قبل أن تتكتم على ظهور فيروس «كوفيد ــ19» المستجد داخل أراضيها لعدة أسابيع نهاية العام 2019، حتى اجتاح أرجاء البسيطة، وصولا إلى عرقلتها لأشهر، دخول بعثة منظمة الصحة العالمية مدينة ووهان مؤخرا للتحقيق فى مصدره، وإجراء بحوث مشتركة مع علماء صينيين حول كيفية انتقاله من الحيوان إلى البشر، بما يحول دون ظهور أوبئة أخرى مستقبلا.
وبينما أظهرت نتائج استطلاع للرأى أجراه مركز «ليفادا» بجامعة «ديوك» الأمريكية فى أكتوبر الماضى، تصاعدا لافتا فى أعداد الرافضين لتناول لقاحات كورونا على المستوى الكونى، بشكل أثار قلق قطاع الصحة بالمنتدى الاقتصادى العالمى من تدنى معدلات التطعيم إلى ما دون المستويات المطلوبة لحماية البشرية، أبى المرشد الأعلى فى إيران، التى تتصدر بلدان الشرق الأوسط من حيث تداعيات تفشى الوباء، إلا حظر استيراد لقاحاته المصنعة فى أمريكا وبريطانيا، بذريعة افتقادها للثقة، والخشية من أن تستخدم الشعب الإيرانى كحقل لتجاربها.
وتحت وطأة الإصرار الجنونى على تسييس الوباء ولقاحاته، حتى استعصى على فقراء العالم تلبية احتياجاتهم الملحة منها، فيما تراجعت مخزونات أغنيائه إثرإعلان شركة فايزر تأجيل تسليم بعض شحنات لقاحها عدة أسابيع لأسباب تقنية، وتأكيد الولايات المتحدة عدم توافر أية احتياطات إضافية من لقاحاتها، أضحت صدقية حملة التلقيح العالمية على المحك. ومع تآكل الثقة فى فعالية ومأمونية اللقاحات المكتشفة، بالتزامن مع دنو الإصابات بكورونا عالميا من 95 مليون حالة، وملامسة أعداد الوفيات سقف الملايين الثلاثة، فى ظل تنامى المخاوف من ظهور نسخ فيروسية متحورة أسرع انتشارا وأشد فتكا، اضطر الأمين العام للأمم المتحدة للإعراب عن أسفه لـفشل «التضامن الدولي» بخصوص إنتاج وتوزيع اللقاحات، فيما استبعدت منظمة الصحة العالمية أن تدرك الإنسانية، هذا العام، مناعة القطيع الجماعية، التى تعول عليها فى احتواء الجائحة وعبور الزمن الكورونى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved