تجارة حرة أم عادلة؟!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الثلاثاء 18 فبراير 2020 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

يبدو أن القدر قد فرض على عالمنا أن تصبح التجارة الخارجية سببا جوهريا فى معظم الصراعات التى تحدث بين شرقه وغربه، بين جنوبه وشماله. وبدلا من أن تمد هذه التجارة الخارجية جسورا للتعارف والتقارب والتكامل بين جميع دول العالم، إذ صارت تمثل النفق الذى يمر منه الشقاق والتباعد والتشرذم. فتحت شعار حرية التجارة، اغتصبت الحقوق واستنزفت الموارد ونشر الفقر والجهل والمرض فى مناطق وأقاليم عديدة من العالم. وحرية التجارة ليست مجرد كلمة تقال أو شعار يرفع؛ بل هى سياسات تراكمية تروج لها جيوش جرارة من الأقلام، وتفرضها مؤسسات دولية بقوة مستمدة من قوة الدول الصناعية المستفيدة من هذه الحرية. فهل حرية التجارة ستسمر القدر المحتوم لمستقبل العالم؟ أم أن هناك من الوسائل ما يعين الطراف الضعيفة فيه على تغييره، كى ترى ضوءا فى آخر النفق؟!
***
يرجع الفضل فى التحذير من حرية التجارة الخارجية والتعريف بأهمية الحماية من مخاطر هذه التجارة المحررة للمفكر والاقتصادى الألمانى «فردريك ليست» «Friedrich List». فعندما نشر أفكاره وأطروحاته الاقتصادية فى بدايات الثورة الصناعية فى القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا وفرنسا تتفوقان صناعيا على جميع دول العالم (بما فيها ألمانيا). وانطلاقا من هذا التفوق، كان كتاب ومفكرى هاتين الدولتين يروجون بشدة لحرية التجارة الخارجية، ويدعون لإزالة جميع الحواجز من أمامها، ومبشرين العالم بأن آمال نهضة جميع بلدانه معقودة على تحرير هذه التجارة، ومدعين فى ذلك أنه فى حالة تحرير التجارة الخارجية ستستفيد جميع الأطراف الداخلة فيها، ومتغافلين ــ عن قصد واضح ــ أن اختلاف المستوى التصنيعى بين هذه الأطراف ينسف الأساس العلمى والتطبيقى لكل هذه الدعاوى البراقة.
وكان أن ثار «ليست» على كل هذه الأفكار، وطالب ألمانيا بأن تحمى مصانعها الوطنية الناشئة حماية واعية، وأن تفرض سياجا عاليا من الإجراءات الجمركية وغير الجمركية أمام طوفان السلع والخدمات المتدفقة من بريطانيا وفرنسا، حتى تتمكن ألمانيا من دعم وتنمية صناعتها الوطنية، ثم تستطيع ــ لاحقا ــ منازلة هذه الدول فى حلبة التجارة الخارجية. وبالفعل، استجابت السياسات التجارية الألمانية لمطالبات هذا المفكر الوطنى، ونظرت للسلع الصناعية المتدفقة على موانئها ومنافذها التجارية كما لو أنها تهديد مباشر للمصانع الألمانية الصغيرة آنئذ. لكن السياسة الاقتصادية الألمانية حينها لم تكتفِ بالحماية التجارية، بل دخلت السياسة الصناعية على الخط، وبدأت فى رسم خطط مستقبلية تضع دعم وتحفيز الصانع الوطنى نصب عينيها دائما. ولسنا نغالى بعد ذلك فى القول بأنه لولا الحماية التى فرضتها ألمانيا أمام الواردات، لما كنا سنرى الآن ألمانيا التى تملأ الآفاق بالنجاح الاقتصادي!
وإذا قفزنا الآن بالتحليل قرنين كاملين من الزمان، سنرى أن القضايا المرتبطة بالتجارة الخارجية فى بداية العقد الثالث من الألفية الجديدة لا تختلف كثيرا عن الواقع الذى انتقده المفكر الألمانى «ليست»، وسنكتشف زيف دعاوى تحرير التجارة الخارجية، تماما كما لو أننا مازلنا فى مطلع القرن 19. فعندما نعيد قراءة بيانات التجارة العالمية بمنهجية تنموية، سنرى أن منافع التجارة فى السلع والخدمات تذهب جلها للدول الصناعية الأكثر تقدما، وسنكتشف أن التجارة الخارجية مجرد مرآة تنعكس عليها الأوضاع النسبية لأى اقتصاد محلى. دعنا نثبت هذه النتيجة بشيء من التفصيل.
***
إن الأسباب الحقيقية لتحرير التجارة الخارجية تظهر بوضوح فى مفارقة يعرفها القاصى والدانى من دارسى علم الاقتصاد ومن المهتمين بالأمور الاقتصادية. فبينما انتهت جولات المفاوضات التجارية العالمية إلى التخفيض التدريجى للعوائق أمام التجارة فى السلع الصناعية وفى الخدمات، حتى وصلت حاليا لمرحلة التحرير الكامل لكليهما؛ ها هى السلع الزراعية ما انفكت العوائق التجارية تتزايد أمامها، وها هم منتجو الدول الزراعية فى العالم النامى تعجز، بكل فجاجة، عن النفاذ الحر لجميع الأسواق العالمية، وخصوصا أسواق دول أوروبا الصناعية. فالتحرير الذى آمنت به المنظمات الاقتصادية الدولية وحملت لواءه هو إذن تحرير انتقائى يخدم فقط مصالح من أسسوا هذه المنظمات، ولا يعير مصالح الدول الزراعية أى اهتمام!
على أن شهرة المفارقة السابقة حول «الازدواجية المقيتة» فى معايير وقواعد التجارة بين السلع الزراعية وبين السلع الصناعية، لا تنسينا قضية تجارية أخرى على جانب كبير من الأهمية؛ ألا وهى قضية «التجارة فى الأموال». فإلزام الدول النامية بسياسات تُحرر أسواقها أمام تدفقات رءوس الأموال، لا تقدم فيه المنظمات الدولية أية تنازلات. ويظهر هذا الإلزام جليا عند لجوء الدول المتعثرة لهذه المنظمات رغبا فى إقراضها ودعمها ماليا، ورهبا من تصنيف أدائها الاقتصادى تصنيفا سلبيا. ولم يكن من نتائج هذا التحرير أن علت ربحية تجارة الأموال (المضاربات المالية الدولية) على ربحية تجارة السلع الزراعية والصناعية فحسب؛ بل تطور الأمر حتى صارت الآن قيم المعاملات التجارية الدولية السلعية ــ على ضخامتها ــ تكاد لا تذكر إذا قارناها بالأحجام الهائلة لتجارة الأموال عبر العالم. وإذا كانت الدول الصناعية قد حصدت وحدها مغانم تحرير التجارة فى السلع الصناعية، وذهبت مغارم هذا التحرير للدول الزراعية؛ فإن الخريطة العالمية للمغانم والمغارم المترتبة على تجارة الأموال مرشحة للاستمرار والتفاقم فى غير صالح الدول الزراعية النامية؛ وذلك، ببساطة، لأن رواد التجارة فى السلع الصناعية هم نفسهم رواد التجارة فى الأموال، وأن الأسواق الرئيسية التى تتحقق فيها أرباح تجارة الأموال هى أسواق الدول الزراعية النامية!
ورغم أن الحقائق السابقة حول الأسباب الحقيقية لتحرير التجارة الخارجية يقر بصحتها جمهرة واسعة من الاقتصاديين، فإن نفرا منهم (وتحديدا منسوبى مدرسة «الاتجاه السائد» والحكمة المألوفة) يحاج بالقول بأنه لولا حرية التجارة الخارجية لما تحسنت رفاهية المستهلكين فى الدول الزراعية النامية، ولما تطورت «قواعد اللعبة التجارية» فى أسواقها المحلية؛ وأن المغارم التى تتحملها هذه الدول من الدخول فى هذه التجارة المحررة ترجع أساسا لعوامل داخلية تخصها وحدها؛ إذ إن سياساتها كانت قاصرة عن اقتناص الفرص العديدة التى خلقها تحرير التجارة الخارجية. ولهؤلاء النفر، ولكى يكتشف القارئ بنفسه الحصاد المر للإيمان بهذه الحجج، سنذكر جانبا من المغارم والخسائر التى تتحملها الدول النامية من هذا التحرير. فهناك، أولا، «خسائر القوة الشرائية» لعملتها الوطنية (ارتفاع معدل التضخم المحلي) التى تتكبدها من قناة التضخم المستورد. ولأسباب اقتصادية يطول شرحها، يكون المرور فى هذه القناة من اتجاه واحد؛ حيث تتمكن الدول الصناعية من نقل عدوى التضخم وتصديره لأسواق الدول المستوردة وتحول دون استيراده. وهناك، ثانيا، «خسائر العمالة المحلية» التى تتمخض عن تحرير التجارة. فعندما تتدفق سيول السلع والخدمات لأسواق الدول النامية، تتكاثر الصعاب أمام الإنتاج المحلى، وتضعف قدرته على خلق فرص عمل منتجة جديدة، فضلا عن محافظته على العمالة القائمة. فالتجارة الخارجية منفلتة التحرير لم تضر طاقة الإنتاج المحلية فقط، ولم تئد المشروعات الصغيرة فى مهدها فحسب، لكنها ساهمت كذلك فى تفاقم مشكلة هدر وتعطل الطاقات البشرية المحلية.
ولنتأمل هنا أيضا «التبعية التكنولوجية» التى نعدها الخسارة الثالثة من خسائر التجارة الخارجية المحررة. فتضرر طاقات الإنتاج المحلية من التجارة الخارجية قد واكبه تضرر مقابل فى فنون الإنتاج المحلية، وتهالكت وتقادمت ما تحويه مزارعه ومصانعه من آلات ومعدات وتجهيزات، وضعفت قدراته التمويلية المرصودة لتطويرها وتحديثها. ونتيجة قصور الجهود التكنولوجية القائمة عن إنتاج وتطوير تكنولوجيا وطنية خالصة، ظلت خطوط الإنتاج المحلية رهينة لما يجود به مالكو التكنولوجيا العالمية عليها، واستمرت الفاتورة الدولارية لهذه التكنولوجيا تتزايد باضطراد؛ ومن هنا نشأت وتفاقمت ظاهرة التبعية التكنولوجية فى الدول النامية.
ثم إن «استنزاف الموارد الطبيعية النادرة وغير المتجددة» التى بحوزة الدول النامية لم يحدث إلا تحت وطأة التجارة الخارجية المحررة، ولم يتفاقم إلا بالقبول بالقواعد المتحيزة للعبة هذه التجارة؛ وهذه هى رابع الخسائر التى تجنيها هذه الدول من ذلك التحرير وأكثرها فداحة. ولعلنا نلفت نظر القارئ هنا لقضية «المقايضة الجائرة» التى تحملتها الدول النامية فى سبيل تحقيق رفاهية مستهلكيها، وفى سبيل مواكبة طبائع الاستهلاك المعولمة. فالحاصل أن الدول النامية قد استمر معدل تبادلها التجارى فى التدهور، وقايضت، بأثمان بخسة، مواردها الطبيعية بهذا الطيف الواسع من السلع والخدمات ذات الأثمان المتزايدة، والتى يستهلكها مستهلكوها ولا تنتجها مصانعها.
***
لا يساورنا الآن أى شك فى أن مغانم التجارة الخارجية الحرة للدول النامية لا يمكن مقارنتها بما تحملته ــ ومازالت ــ من مغارم. لكننا نقر، فى ذات الوقت، بأنه لا مكان فى عالم اليوم لاقتصاد منغلق ومنكفئ على نفسه. وانطلاقا من هذا الإقرار، يكون التساؤل المنطقى دائر حول الكيفية التى يمكن أن تغير «قواعد اللعبة» التى تتحدد بها معادلة التجارة العالمية، كى تقل مغارم الطرف الأضعف فيها. وبمعنى أكثر وضوحا، فإن السؤال الذى يجب أن تكون إجابته واضحة هو: كيف يمكن أن تتحول قواعد التجارة الخارجية من حرة لعادلة؟
نعتقد اعتقادا جازما أن التعاون والتكامل بين الدول النامية متشابهة المصالح، والدخول فى مفاوضات مباشرة متعددة الأطراف، والتوقف عن تقديس وجهات نظر المنظمات الدولية واعتبارها كأنها مسلمات غير قابلة للأخذ والرد، وإعادة النظر فى الاتفاقيات التى تقوم عليها المنظمات الاقتصادية الدولية (وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية)، هى المداخل التصحيحية لتحسين قواعد اللعبة الدولية فى مجالات التجارة الخارجية، ولتحويل هذه التجارة من حرة ومفيدة للأطراف الصناعية، لعادلة فى توزيع مغارم ومغانم هذه التجارة. وبالإضافة لهذه المداخل المهمة، فإن صياغة سياسة اقتصادية قطرية رشيدة وداعمة للطاقات الزراعية والصناعية الوطنية، وإعادة الاعتبار للحوافز الواعية التى يمكن تقديمها للمنتجين المحليين تحت مظلة برنامج وطنى للاستثمار محل الواردات (راجع فى مفهوم ومقومات هذا البرنامج مقالتنا المنشورة سابقا فى هذه الزاوية وتحمل عنوان «الاستثمار محل الواردات»)، والاستخدام السليم والفعال لأدوات القوة والتأثير التى تمتلكها الأطراف الخاسرة من تحرير التجارة (مثل القوة التى تمتلكها من اتساع أسواقها المحلية وبما تشكله من رئة رئيسية للدول الصناعية)، تمثل جميعها حلولا لا بديل عنها للمشاكل التى تجنيها الدول النامية من التجارة الخارجية، وهى الوحيدة القادرة على إنارة بعض الأضواء التى ستساعدنا على الرؤية فى آخر النفق!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved