ترى فى أى عصر نعيش؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 18 فبراير 2022 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

من المعروف أنه لكل دولة رموزها الأدبية التى تفخر بها على طول الزمان وفى كل مكان، وبلا شك يُعَّد موليير مفخرة فرنسا كما شكسبير لإنجلترا ونجيب محفوظ ويوسف إدريس لمصر، فإبداع محفوظ وإدريس لا يختلف عليه اثنان رغم اختلاف المدرسة الأدبية، ولذلك كما خلدت فرنسا موليير وإنجلترا شكسبير خلدت مصر محفوظ وإدريس. وهكذا أصبحت روايات موليير وشكسبير معروفة كونيًا مثل «الطبيب رغم أنفه» و«البخيل» لموليير أو «هاملت» و«ماكبث» لشكسبير... إلخ، وقد تُرجمت هذه المسرحيات لمعظم لغات العالم وعرضت فى المسرح القومى. وهذا ما تم أيضًا مع روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس إلا أن الأخيرين انتشرا أكثر فى الشرق الأوسط وبين قراء العربية بشكل عام. والفارق بين شكسبير وموليير أن شكسبير كان تراجيديًا حادًا فى طرحه بينما موليير كان كوميديًا صارخًا.
ربما تسأل ــ عزيزى القارئ/ عزيزتى القارئة ــ لماذا أتحدث عن هؤلاء العظماء الآن؟! والإجابة أن فرنسا تحتفل هذا العام بمرور 400 عام على ميلاد موليير (1622 ــ 1673م)، وتضج باريس على طول هذا العام بمناسبات فنية وأدبية واحتفالات كبرى، ومن أهم مسرحيات موليير التى تُرجمت لمعظم لغات العالم مسرحية (طرطوف). وقد اخترت لك ــ عزيزى القارئ ــ هذه المسرحية لأنها تتعلق برجال الدين وخاصة المتزمتين والمتقعرين من ناحية والمنفتحين والمقبولين من الشعوب من الناحية الأخرى. بالطبع نلاحظ أن معظم رجال الدين الصادقين مع أنفسهم يكونون من المهمشين، مقابل الدعاة المتملقين للسلطة المتاجرين بالدين، وقد أصبحوا من المليونيرات، وهذه النوعية الأخيرة من رجال الدين كانوا ــ فى ذلك الوقت ــ يصولون ويجولون ويرعبون الناس بسلطانهم وأموالهم ومراكزهم العليا فى التدرج الكهنوتى، وبالطبع كل هذا انتهى الآن وانقلب الحال فى فرنسا.
• • •
أما مصر اليوم فهى الأقرب شبهًا بفرنسا قبل 400 عام، ولكى نتعلم الدرس نحتاج أن نعود إلى الماضى؛ حيث كان الملك لويس الرابع عشر يخاف من الكهنة (رجال الدين) المتشددين، فما بالك بالشعب؟! فهذا الملك الجبار الذى أرعب أوروبا وأصبح أشهر ملك فى تاريخ فرنسا إلى درجة أنهم لقبوه بـ«الملك الشمس» كان يخاف من فئة واحدة فقط فى الشعب الفرنسى هى فئة رجال الدين، وكان زعيم الأصولية الدينية آنذاك خطيبًا مفوهًا، لذلك كان الملك يخشاه أكثر من سواه فهو وحده الذى كان يستطيع أن يوبخ ملك فرنسا أو يؤنبه علنًا أمام الشعب الفرنسى، وكان يحدث ذلك كثيرًا لأن ملكهم لم يكن يتقيد بالأخلاق الدينية الصارمة فى حياته الشخصية، وعندما صدرت مسرحية «طرطوف» كان عمر الملك حينئذ 25 عامًا فقط، وهذا يعنى أنه كان فى عز شبابه ولا يستطيع أن يتقيد كليًا بنصائح رجال الدين ومواعظهم، وكان يشعر أنه محاصر أو مُراقب من قِبل الكهنة الذين يملأون ردهات القصر الملكى.
فى مثل هكذا ظروف ظهرت مسرحية «طرطوف» أو «المنافق»، وقد أُظهرت بإيعاز سرى من الملك شخصيًا حيث كان يريد أن يُصفى حساباته مع الكهنة والأصوليين المتزمتين الذين لا همَّ لهم إلا مراقبة الناس فى حياتهم الشخصية وتقريعهم وزجرهم، فأوعز إلى موليير لكى يكتبها، بمعنى آخر كان الملك يريد أن يستخدم هذه المسرحية كسلاح ضد المتزمتين والمتقعرين الذين يراقبونه باستمرار ويحدون من حريته الشخصية ويلومونه بشدة على مغامراته الغرامية. بالطبع ــ عزيزى القارئ ــ ما كان لموليير أن يتجرأ على تأليفها لولا الضوء الأخضر الذى صدر له من الملك شخصيًا. لكن بعد عرضها الأول على خشبة المسرح هاج رجال الدين وماجوا داخل القصر وخارجه، وهاجت على موليير الهوائج. فأدانها مطران باريس الكبير بل وكفرها واعتبرها معادية للعقيدة. عندئذ خاف لويس الرابع عشر من ردة فعل الشارع الأصولى وتراجع فورًا وأمر بوقف تمثيلها، وبما أن فرنسا كانت مدينة متدينة حينئذ فإن الملك عرف معنى خطورة الأمر. بالطبع اندلعت معركة كبرى بين المحافظين والمجددين، وهكذا توقف عرض المسرحية لخمسة أعوام متواصلة حتى عادت الرواية إلى خشبة المسرح من جديد وذلك بعد أن قدم موليير بعض التنازلات حتى فيما يخص الاسم، فبعد أن كان اسم المسرحية: «منافق»، أصبح «طرطوف» أى المنافق المزيف، بمعنى أنه لا يقصد رجال الدين حصريًا إلا بشكل سطحى مع بعض الفئات الأخرى. بالطبع كان موليير شخصًا غير متزمت دينيًا، كان مسيحيًا بطبيعة الحال كبقية الشعب الفرنسى، وأيضًا يشبه فنانينا ومثقفينا وأدباءنا ومعظم شبابنا فى مصر غير الملتزم بالطقوس والشعائر الدينية بحذافيرها وبشكلها الحرفى. ولهذا السبب فإن الأصوليين المتشددين فى ذلك الوقت فى فرنسا كانوا يعتبرونه «فاسقًا داعرًا» أو «زنديقًا ملحدًا» ويجب عليهم أن يقوموا بتصفيته كما حدث فى مصر مع فرج فودة وغيره، لولا أن الملك تصدى لهم. من هنا صدرت بيانات عن المسرحية تشبه ما يصدر أحيانا فى المنطقة العربية ومفادها: أن من يذهب إلى المسرح لمشاهدة المسرحية يُتهم بالكفر ويفصل من عضوية الكنيسة، وكان على رأس المناهضين لهذه المسرحية أسقف (مطران) باريس الذى أصبح العدو اللدود لموليير. ويمكن القول إن موليير نجا من المحرقة بأعجوبة. ونعلم أن محاكم التفتيش كانت حينئذ لا تزال فى قمة سلطانها، وما كانوا ــ عزيزى القارئ ــ يحرقون كتبك أو مؤلفاتك فقط وإنما كانوا يحرقونك أنت شخصيًا معها أيضًا. كان يكفى أن يُشعلوا النار فى الساحة العامة بباريس ويلقونك فيها أنت وكتبك طُعمة للنيران.
لم تكن السلطات الدينية تمزح فى مثل هذه الشئون الحساسة جدًا، ففى عام 1662م قاموا بحرق شاعر شاب أمام أنظار المارة بتهمة التجديف والكفر بالمقدسات، وكان يصرخ أمام أنظار المشاهدين وهو فى سن الثالثة والعشرين من عمره فقط.
• • •
بالعودة إلى لويس الرابع عشر نجده استخدم موليير كرأس حربة ضد الأصولية والأصوليين وضد التزمت والمتزمتين، وذلك بعد أن لاموه كثيرًا على تصرفاته الشخصية، وعدم تقيده بالتقاليد الدينية، لقد أراد الملك توجيه رسالة معينة لهم من خلال موليير تقول ضمنيًا ما معناه، خففوا من تزمتكم وغلوكم فى الدين فالدين يُسر لا عُسر.
وهكذا أصبح الفن سلاحًا فعالًا فى معركة الفكر والحريات، وأصبح الملك ذاته بحاجة إلى موليير. بالطبع انزعج موليير عندما أوقفوا مسرحيته وأحس بالقمع والإهانة، ولذلك كان يصرخ قائلَا: أنا فنان، أنا حر، وبالطبع هو على حق فى ذلك لأنه لم يهاجم الدين ولا رجاله بشكل عام، إنما هاجم فقط فئة ضالة منهم منافقة تتظاهر بالدين أو بالتدين الكاذب، وهى أبعد ما تكون عن التقوى والورع الحقيقى. لهذا السبب احتلت هذه المسرحية مكانة هامة جدًا ليس فقط فى حياة موليير وإنما فى تاريخ فرنسا كلها بل والعالم الآن، لقد تحولت فرنسا 180 درجة، وتخلصت كُليًا من الرقابة الكنسية القمعية الأصولية المتزمتة، فلا أحد اليوم فى فرنسا يخاف من رجال الدين إذا ما كتبوا أو نشروا أو أعلنوا عن رأيهم، بل الأمر أصبح معكوسًا فرجال الدين هم الذين أصبحوا خائفين مقموعين ومرعوبين، بل فى وسائل الإعلام يستهزئون ليس فقط برجال الدين وإنما بالبابا والقيادات الدينية ولا أحد يحاسبهم.
عندما جاءت لحظة الموت لموليير طلبوا له كاهنًا لكى يعطيه البراءة الدينية الضرورية حتى يرضى الله عنه ويرحل مطمئنًا سعيدًا عن هذا العالم، لكن الكاهن الأول الذى طلبوه له رفض المجيء، والثانى اعتذر، وقال إن موليير كافر نجس لا يستحق، وكذلك فعل الكاهن الثالث، وعندما عثروا على كاهن رابع قَبل على مضض بأن يعطيه صك «الغفران»، لكنه وصل متأخرا بعد أن مات موليير.
• • •
عزيزى القارئ هذه القصص عندما يقرأها الفرنسيون اليوم يسخرون منها، أما فى مصر فما حدث عندنا: اُغتيل فرج فودة بعد تكفيره علنًا وبتحريض من بعض رجال الدين، وترك مصر مهاجرًا بعد تكفيره الدكتور نصر حامد أبوزيد، وطلقوا زوجته منه، قام بالتدريس فى هولندا حتى مات غريبًا، ومات الدكتور العلامة اللاهوتى جورج حبيب بباوى منفيًا فى أمريكا حتى لا يُمثلوا بجثته.
عزيزى القارئ مقارنة بباريس القرون الوسطى تُرى فى أى عصر نعيش؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved