«السيدة الزجاجية».. الذين لا يراهم أحد!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 18 فبراير 2023 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

ربما تكون هذه الرواية للروائى عمرو العادلى من أفضل أعماله إحكاما وتأثيرا، ومن أفضل ما قرأت خلال السنوات الماضية فى إعادة اكتشاف المهمشين، الذين لا يراهم أحد، والذين سحقهم قطار الحياة، فلم تبقَ منهم إلا سطور الحكايات، تمنحهم بعض العزاء، وتعوضهم بعض الجزاء.

الرواية، الصادرة عن دار الشروق بعنوان «السيدة الزجاجية»، تنجح أيضا فى رسم ملامح بورتريه لشخصية لا تنسى هى أم كلثوم (ثومة) العزب سعيد، ابنة سيرك الحياة، والأم التى تصنع لابنها آدم عالما يخصهما، لا تبالى بظروفه الصعبة بعد مولده، غير قادر على الحركة أو الكلام، كبير الرأس، صغير الجسد، وكأنها إيزيس معاصرة، تلملم بقايا إنسان، دون أن تشكو أو تيأس.

ولكن الرواية ليست عن ثومة وآدم فقط، وإن كانا محور السرد، ولكن العادلى ينجح أيضا فى أن يطوّر رحلة الشخصيتين فى «معافرة» الحياة، لتستوعب تغيرات اجتماعية واقتصادية خطيرة، فى الفترة بين عامى 1967 و1977.

عالم يخبو ويتراجع، وعالم جديد يولد، يحمل انسحاقا كاملا للمهمشين، وحول ومع ثومة وابنها، تظهر شخصيات كثيرة لا تقل عنها معاناة، مثل الشيخ سلمان، وزوجته البدينة، ومثل سعد، الذى لا علاقة له بالسعادة، منذ جلس على كرسيه المتحرك، إثر حادث فى مضرب الطوب الذى يعمل به، ومثل العاملين فى السيرك، ومثل العاملين فى مصنع الزجاج، حيث تذوب حياة ثومة، فى فرن الظروف القاسية.

هى إذن حكاية بشر وعصر يتغير، كُتبت بتعاطف ومحبة، فلا نفقد شعورا عارما ببؤس الحياة، ولا نفقد لمساتٍ إنسانية، وإعجابا بقوة إرادة ثومة، بالذات وهى تصنع حياة كاملة من الطبيعة ومفرداتها، فى أرضٍ زراعية منعزلة، فكأنها امرأة الطبيعة، والأنثى الخالدة واهبة الحياة أينما كانت، وكيفما كانت ظروفها.

لا تأمل فى انتصار، أىّ انتصار، ولكنها تروض أحوالها، وتقلِّل هزائمها، ترتدى زى جندى تركه فى المكان، وتصنع لابنها عربة من خشب السواقى، وتختبئ من العالم فى حفرة، حتى يكتشفوها، فأهل الهامش لا يستطيعون الاختباء، ولكنهم محكوم عليهم بالاستمرار فى اللعبة حتى نهايتها.

رأيت فى النص أيضا معنى قانون السيرك، الذى كان يعلن للناس أن الحياة ليست مثل عصير القصب، ولكنها مثل زيت الخروع، وأن العينة التى تمثلها حالة ثومة وابنها، هى جزء من الحياة الحقيقية، الحياة التى ليس لها ظهر، وإنما لها زمن، إذا مرَّ لن يعود، بل الأدق أن نصفها بأنها حياة من لا ظهر لهم.

ثومة تمثل نفسها، وتمثل هؤلاء، تطاردها منذ طفولتها لعنة العقاب والضرب من زوج أمها عامل السيرك، وتؤرقها فكرة أنها بلا نفع مثل الأخريات، لا تستطيع حتى أن تكون «نمرة» فى السيرك، ويترسخ شعورها بإنجاب آدم، الذى يبدو أيضا بدون نفع، وستكون كل حياتها، سواء فى القرية، أو فى المدينة، لإثبات هذا النفع، سواء وهى تخلق عالما كاملا لإنقاذ ابنها، أو فى قدرتها على تحويل «خُصّ» صغير متواضع على جانب الطريق، إلى مطعم يؤمه العابرون، أو وهى تعمل فى مصنع الزجاج، فى المدينة التى تتغير بلا رجعة.

عنوان الرحلة كلها أن تثبت ثومة مقولتها المؤلمة: «لسنا زبالة.. نحن أنظف ناس.. الظروف هى الزبالة يا عم»، إنها بطلة تراجيدية تواجه قدرها بثبات حتى النهاية، وفى امتزاجها بالزجاج معنى خرج من قلب الحكاية، لقد صهرتها أقدارها، فذابت فيها، لا مهرب أبدا، ولكن نهاية محتومة، أثرٌ دال على المقاومة، إذا انتصرت النار، فلأنها الأقوى، وليس لأن ثومة هربت من ميدان المعركة.

لو تأملت أكثر فإن «السيدة الزجاجية» هى حكاية الهامشين: هامش القرية، وهامش المدينة، ورحلة ثومة متأرجحة بين الاثنين، والمرأة وابنها فى حال مؤسفة فى الستينيات والسبعينيات، واختيار السيرك والطريق السريع والأرض الزراعية، ثم الانتقال إلى منطقة عرب الحصن، التى تُجرّف فيها الأرض الزراعية، لتتحول إلى أرض للبناء فى السبعينيات، ثم اختيار مصنع الزجاج، الذى يبدو مثل سجن كبير، ثم يصبح مثل جهنم حرفيّا، كل ذلك يؤشِّر إلى ذكاء ووعى المعالجة، رغم بساطة الحكى، ورغم ما قد يبدو لأول وهلة، بأننا أمام حكاية تقليدية.

البراعة فى هذا التطوير للرحلة وللشخصية، لينفتح الخاص على العام، فتبدو مأساة الهامش فى فوضى المتن، وتظهر المشكلة فى سيرك الحياة، لا فى سيرك الفن، وتتجسد الكارثة فى الآخر، وليس فى ثومة، وتصبح الصعوبة فى أن تهرب من الناس، فتجدهم أمامك، تترك لهم الدنيا، وتنزل إلى حفرة، فيخرجونك منها.

فى كل مرحلة من مغامرة ثومة وابنها، كانت تجد من يبحث ويطارد، وكانت دوما ترفض الصفع والضرب بالكرباج، مثلما كانت تقاوم يوما بيوم سياط الظروف على جسدها، وترفض أيضا هبات المتصدقين صارخة: «لسنا شحاتين».

يمكن أن ترى أيضا آدم كحالة اعتراضٍ صامتة وعاجزة، قد تتجاوز الشخصية إلى التعبير عن الفئة كلها، أهل الهامش، الذين يحتاجون إلى معجزة، ونهاية الرواية ليست متفائلة على الإطلاق، فالدائرة مغلقة، وشخصية مثل سعد، الذى يحاول فى كل مرة أن يعوض حرف «الهاء» الناقص فى آلته الكاتبة، يكتشف أن عليه ألا يصل إلى مصير المرأة الزجاجية، مهما كانت الوسائل، عليه أن يقبل بالفتات، وأن ينتهز المتاح، ذلك أن حروفا كثيرة ناقصة فى ماكينة الحياة، لن يستطيع تعويضها.

ملاحظتى الأهم على هذا السرد المؤثر المتعاطف هى حضور الفصحى فى حوار الشخصيات، بينما هى رواية الهامش شكلا ومضمونا، رواية الشارع والطريق، حكاية السيرك وعرب الحصن، ومصنع الزجاج، اللغة المحكية ليست سوى النص نفسه، صوتا وبلاغة وتعبيرا، ومهما كانت الفصحى سلسة ومبسطة، فإن العامية هى اللون المناسب، الذى لا يمكن استبداله.

ولكن يظل هذا النص شاهدا قويّا، عن الذين يعيشون بيننا، ولكن لا يراهم أحد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved