كيف تفكر الصين

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 18 مارس 2009 - 7:36 م بتوقيت القاهرة

 على الرغم من كل ما تعرض له جيلنا من نكسات ومشاق، سوف تحسدنا أجيال قادمة على أننا الجيل الذى عاش تجارب دولية عظمى. كان شاهدا على السقوط المتزامن للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية وانحسار الاستعمار الأوروبى مفسحا المجال لصور أخرى من الهيمنة الغربية. ثم عشنا يوما بيوم تجربة سقوط الإمبراطورية السوفيتية، أو بمعنى أدق، سقوط الإمبراطورية الروسية فى نسختها الشيوعية.

ونشهد الآن صعود الصين. نشهد بعيون غربية وفى آن آخر بعيون شرقية. تبدو الصين لنا أحيانا ورشة عمل عظمى، وتبدو فى أحيان أخرى مستودعا لاحتياطى هائل من بشر منتج وسلع جاهزة للتصدير إلى أى مكان ولاستهلاك أى نوع من أنواع الناس، وتبدو أيضا بيئة خصبة لجميع أشكال الكوارث الطبيعية والمشكلات الاجتماعية، ولعلها فى الوقت نفسه صارت فى نظر الكثيرين الخزانة الأكبر فى العالم لأضخم احتياطى نقدى تراكم فى أى مرحلة من مراحل التاريخ. ومع ذلك مازالت الصين غامضة وصعبة على الفهم. نحن لا نعرف إلا القليل جدا مما كان يجب أن نعرفه عن طموحات قيادتها الحاكمة وأهدافها متوسطة أو طويلة الأجل. لا نعرف الكثير عن تفاصيل حلول تبتدعها للمشكلات المصاحبة للصعود. ولم تتح لنا ولا لغيرنا فى الغالب فرصة التعمق فى فهم ودراسة العقيدة الإستراتيجية للقيادة التى تسيّر عملية الصعود والنهضة. نحن لا نعرف حتى الآن بأى درجة من الثقة كيف ترى الصين نفسها، لم تفصح بعدُ عن رؤيتها لنفسها ورؤيتها لمكانتها ودورها بين الأمم فى الحاضر والمستقبل، وأدوات تحقيق هذه الرؤية.

بدأنا منذ سنوات قليلة نبذل جهدا لنعرف كيف يفكر صناع الصين الناهضة، بحثنا عن الأسس التى يعتمدون عليها فى تخطيط مشاريعهم وانشغلنا لبعض الوقت فى عملية شديدة التعقيد، وهى محاولات تقدير نسبة ما اختاروه من عقائدهم القديمة وتراثهم الفكرى والبيروقراطى والثقافى إلى ما اختاروه من فلسفة الغرب وأيديولوجيته وقواعد تنظيمه وأساليب إداراته للمشاريع، وركزنا اهتمامنا على أصعب المهام وكانت تتعلق بمستقبل مسارات السياسة الخارجية الصينية على ضوء اطّراد هذه النهضة، وإن كان مصيرها الحتمى الهيمنة على شعوب أخرى كما حدث فى تجارب صعود أمم أخرى على مدى القرون.

الكثيرون من أبناء جيلى لا يعرفون عن الصين الناهضة الشىء الوفير، فقد عزلت أو انعزلت لأكثر من قرن وغابت عن وعى العالم باستثناء مرحلة ركزت خلالها فى العمل عن بُعد على تشجيع الشعوب للحصول على استقلالها. ولا شك فى أن المسافة الجغرافية لعبت دورا كبيرا فى شعورنا بهذا الغياب. من ناحية استطاعت اليابان فى القرن العشرين احتكار الانفراد بتجسيد أفكار النهضة الآسيوية، وقدمت نموذجا تأكد بمرور الوقت أنه غير قابل للتقليد أو التماهى فى أى مكان آخر.

ولا يمكن الحديث عن نهضة الصين إلا بالعودة إلى الثورة الوطنية والتحديثية التى أطلقها الزعيم صان يات صين قبل أن يحبطها التدخل الأجنبى والحروب الأهلية وعصابات الأفيون. وبعدها نشبت الثورة التحديثية الثانية بقيادة ماو تسى تونج. فى هذه المرحلة نجحت نخبة الحكم فى غرس نظام للقيم فى شعب كان فاقدا لها. كانت سنوات ما قبل الثورة فترة انعدمت فيها أخلاقيات الإنتاج والعمل وحب الوطن. وفى أقل من خمسة وعشرين عاما كان الشعب الصينى جاهزا لجنى ثمار الجهد والمعاناة خلال سنوات بناء منظومة قيم حضارية. كانت الأمة جاهزة للعطاء. لذلك كان تطورا طبيعيا ومنطقيا أن تبدأ النخبة الحاكمة مرحلة الانطلاق الاقتصادى بتجميع الجهود الإبداعية والاستقصاء عن تجارب الآخرين فى النهضة والتعلم منها بعيدا عن قيود بيروقراطية الحزب وبيروقراطيات الدولة، وكانت وسيلتها التوسع فى إقامة مراكز للبحث العلمى وتطوير القائم منها.

كان تطورا طبيعيا، إذ لم تنشد أمة الرفعة والتقدم، إلا وجاءت فى صدارة برامجها تعبئة رجال الفكر والعلم والبحث من ناحية، ومن ناحية أخرى إقامة صناعة سلاح مؤهلة لأن تستوعب حصيلة هذه الأفكار والبحوث وتعيد بث مخرجاتها التكنولوجية إلى القطاع المدنى مزودة بالتجربة والخبرة والطاقة البشرية الكَفُؤة.

فى أقل من عشرين سنة، قامت بالصين المئات من مراكز البحث، بل إن الإكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، كانت قبل انطلاقة الثمانينيات لا تقوم بدور يذكر فـى مجال البحوث، صارت تضم الآن خمسين مركزا للبحث يتخصص فى 26 فرعا وعلما، ويشتغل بالبحث فيها حوالى 4000 باحث متفرغ. قارن هذا الرقم ببريطانيا، حيث لا يتجاوز عدد الباحثين فى مراكزها المئات، وفى كل أوروبا لا يتجاوزون الألوف، وفى الولايات المتحدة يصل الرقم إلى حوالى 10.000 باحث، بينما فى الصين مركز واحد يضم أربعة آلاف باحث بخلاف المئات من المراكز فى شتى الأنحاء والتخصصات.

أمر أساسى يجمع بين تلك المراكز. كلها منشغل بالمستقبل، وكلها مسموح له أن يجرى النقاش فيها والعمل بحرية فكرية كاملة. ويقول باحثون أجانب زاروا بعض هذه المراكز إن ثلاثة موضوعات مستثناة من مبدأ حرية البحث والتفكير، وهى أمور الحزب الشيوعى الصينى، وإقليم التبت، وقضية مظاهرات الديمقراطية التى نشبت ذات يوم فى ميدان تينامين بوسط العاصمة بكين، وهى المظاهرات التى مازالت أجهزة الإعلام فى الغرب تستخدمها بكثافة لتأكيد غياب الحريات فى الصين.

وينقسم الباحثون الصينيون إلى يمينيين جدد وليبراليين مؤمنين بحتمية العولمة وضروراتها. ولكن يجتمعون حول معضلة أساسية، لعلها المعضلة الأهم فى نهضة الصين: كيف يمكن الاستفادة من السوق العالمية من دون تعريض الصين لأخطار التدمير الخلاق المصاحب حتما لعملية الاندماج فى السوق العالمية؟. والمؤكد فى كل الأحوال أن التحول الذى حدث فى الصين من اقتصاد اشتراكى إلى اقتصاد سوق يعود الفضل فيه ـ إلى حد كبير ـ إلى التيار اليمينى الذى هيمن لفترة على أنشطة البحث والدراسة، فمن بين هؤلاء خرج باحثون استطاعوا إقناع أعضاء المكتب السياسى بضرورات التغيير من خلال «جلسات درس» متعددة على نمط جلسات الاستماع التى يعقدها الكونجرس الأمريكى، وكذلك من خلال أوراق بحثية تناقش خطوات تنفيذ الخطة الخمسية. لم يتخف باحث أو مسئول وراء كلمة إصلاح. كان الحوار الوطنى صريحا وأمينا ومباشرا.

وقد نقل زائر عن باحث صينى كبير بعض تفاصيل تجربة الانتقال من الاقتصاد الاشتراكى إلى اقتصاد السوق وخلفياته. ومثل غيره من الأجانب انبهر الزائر بشغف الصينيين بالقصص الفولكلورية والأساطير لتقريب أفكارهم إلى ذهن المستمع. كان السؤال الذى وجهه الزائر إلى البحث الصينى يتعلق بالكيفية التى جعلت الشعب الصينى وقياداته فى الريف والمصانع تتقبل الانتقال إلى الاقتصاد السوقى. روى الباحث الصينى المخضرم، فى محاولته تقديم إجابة عن السؤال، حكاية عن قريتين عاشتا جنبا إلى جنب رِدْحًا من الزمن. كانت الأولى تعتمد على الخيل فى إدارة شئونها حتى جاء يوم عرف شيوخ القرية الأولى أن القرية المجاورة التى تعتمد فى إدارة شئونها على الحمير الوحشية تعيش أحوالا معيشية أفضل. فما كان من شيوخ القرية الأولى، التى تعتمد على الخيل، إلا أن نظموا حملة توعية بين سكان عاشوا حياتهم معتقدين ـ كما اعتقد جدودهم ـ أن الخيل هى الأفضل فى إدارة شئون القرية لإقناعهم بالاستعانة بالحمير الوحشية بديلا للخيل، جاء الرفض من جانب السكان قاطعا وعنيدا، فالخيل عندهم لها مكانة تقترب من التقديس. وبعد وقت غير قصير لجأ الشيوخ إلى خطة عبقرية. ففى ذات ليلة، وبعد أن آوى سكان القرية إلى بيوتهم للنوم ودخلوا فى سبات عميق، جمع الشيوخ خيول القرية ورسموا عليها خطوطا سوداء فبدت تماما كالحمير الوحشية. وأفاق السكان فى صباح اليوم التالى ليجدوا حميرا وحشية تدير شئونهم فاحتجوا وهددوا بالتمرد، ولم يهدؤوا إلا حين أقسم أمامهم شيوخ القرية إن ما يرونه أمامهم ويدير شئونهم ليست حميرا وحشية بل هى خيولهم نفسها ولكن بخطوط سوداء.

صدق الناس واعتادوا على منظر خيولهم فى لباس حمير وحشية، بينما كان الشيوخ يستبدلون أثناء الليل الخيول بحمير وحشية حقيقية. وبمرور الوقت زاد عدد الحمير الوحشية وتقلص عدد الخيول وهيمنت الحمير الوحشية على عملية إدارة شئون القرية، وحل الرخاء محل الفقر وسادت السعادة واختفت الكآبة، فاجتمع الشيوخ وقرروا دعوة أهل القرية ليعلنوا على أسماعهم أن الحمير الوحشية هى التى تدير شئونهم وليس الخيل وأن الحمير جيدة، والخيل رديئة وسيئة.
ولا يخفى الباحثون الذين روجوا لهذه الحكاية أن القرية موضوع الرواية الفولكلورية هى فى الواقع مدينة «شينزين». والمعروف أن شينزين اشتهرت منذ بداية عملية التغيير بأنها «المدينة التجربة» أو المدينة النموذج التى اختارها قادة التغيير عام 1979 لتكون «منطقة اقتصادية خاصة». وكان المنطق وراءها، كالمنطق وراء فكر اليمين الجديد فى الصين، وربما خارج الصين أيضا، تلخصه عبارة الزعيم الصينى الراحل دينغ شاو ينغ، ونصها: «بعض الناس يجب أن يغتنى أولا»، وتعيد صياغته حكمة صينية تقول «أفضل للصين أن يكون لكل إقليم من أقاليمها مطبخه المستقل عن أن يكون لكل الصين مطبخ واحد».

ولن يقدِّر هذه الحكمة إلا من عاش فى الصين أو اعتاد ارتياد المطاعم الصينية الأصيلة، وأجاد فن تذوق أكلاتها والتمييز بينها على أساس مكوناتها والإقليم الذى اشتهر بطهوها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved