اللامعقول فى السياسة المصرية بعد الثورة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 19 مارس 2012 - 9:28 ص بتوقيت القاهرة

أصارح القارئ بأننى سئمت من التحليلات السياسية المفرطة فى التشاؤم لواقعنا الحالى بعد الثورة، والتى شاركت أيضا فيها، وتمنيت لو استطعت اكتشاف جوانب مضيئة فيما يمر بنا من أحداث لعلها تبعث فينا الأمل بأننا قادرون على تجاوز الصعوبات الراهنة، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وأننا سنتحرك فى القريب العاجل على الطريق الذى يؤدى بنا إلى تحقيق شعارات الثورة: عيش، حرية، كرامة إنسانية. ومع أننى شبه واثق من أنه مع ارتفاع مستويات التعليم والوعى السياسى فإننا سنقترب من ترجمة هذه الشعارات إلى واقع فى المدى الطويل، والذى ربما يأتى بعد سنوات، ولكننى وقد تأملت أحوالنا الحاضرة وجدت نفسى أتذكر ما عرفته مصر فى الستينيات على خشبات أحد مسارحها الصغيرة، والذى كان يسمى بمسرح الجيب، فقد عرضت عليه مسرحيتان، احداهما للكاتب الفرنسى يوجين أونيسكو وهى مسرحية الكراسى، والثانية فى انتظار جودو للكاتب الأيرلندى صمويل بيكيت، وفى هاتين المسرحيتين، كما هو الحال فى كل مسرح اللا معقول، تواجه الشخصيات عالما تستطيع فهمه، وتتبادل بدورها عبارات لا يوجد بينها رابط. ووجدتنى أرى الكثير من مظاهر اللامعقول فى أوضاع السياسة المصرية فى الوقت الحاضر، وجعلت أتمنى أن ننتقل سريعا إلى وضع نستطيع فيه أن نفهم دواعى المواقف التى يتخذها اللاعبون الأساسيون على مسرح السياسة المصرية. وأسباب الغموض الذى يحيط بهذه المواقف والذى يجعلها أقرب إلى اللامعقول لأن التحليل المتعمق لها سرعان ما يكتشف أنها لا تحقق مصالح الأطراف التى تقوم بها، وسأضرب للقارىء الكريم عدة أمثلة لمثل هذه المواقف، وألتمس حكمه عليها، وجوابه حول طبيعة المصالح الكامنة وراءها، وهل تحقق مثل هذه المواقف مصالح أطرافها أو مصلحة الوطن.

 

 

غياب القواعد الحاكمة للفترة الانتقالية

 

لن أستفيض كثيرا فى بيان التناقض الصارخ بين كون مصر تحت حكم عسكرى فى ظل إدارة المجلس الأعلى للقوات المسلحة لشئون الحكم فى البلاد، ويفترض أنه فى ظل حكم عسكرى، وبما عرف عن العسكريين من انضباط، سوف يسود الأمن البلاد، ولكن لا يختلف اثنان على أن مصر لم تعرف فى تاريخها القريب فترة انهار فيها الأمن وحكم القانون، وساد فيها الخوف بين المواطنين على حياتهم وأملاكهم مهما كانت ضآلتها، مثلما خبرته فى ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولكن سأمر سريعا على ما انتهى إليه هذا المجلس ومعه قوى سياسية لها الغلبة الآن فى مجلسى البرلمان على أن تبدأ الفترة الانتقالية بانتخاب هيئة نيابية هى التى تقوم باختيار الجمعية التى تصوغ الدستور. لا عليك من أنه فى كل التجارب المماثلة تكون البداية هى بالاتفاق على معالم النظام الجديد بوضع دستور ثم يجرى بعدها انتخاب كل سلطات الدولة، وليس الهدف من تذكير القارىء بهذه المسألة معاودة البكاء على اللبن المسكوب، ولكن فقط للإشارة أن الجدل المحتدم الآن هو بسبب هذا القرار الذى اتخذه المجلس فى شهر مارس الماضى. البدء بانتخاب هيئة نيابية وترك مسألة اختيار الجمعية التأسيسية لها معناه أننا نضع الدستور فى يد من يملك الأغلبية فى هذه الهيئة النيابية، وكان من الواضح وقتها لمن ستكون الأغلبية فى هذه الجمعية بعد الإطاحة بالحزب الحاكم سابقا وقصر الوقت المتاح لقوى الثورة لتشكيل أحزابها ووجود قوى عالية التنظيم وحدها على الساحة بعد خلو المسرح السياسى من خصمها الرئيسى. والسؤال الآن هو هل كان أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة على وعى بما سينجم عن قرارهم هذا، أم أن هذه النتائج قد غابت عنهم، وتنبهوا لها لاحقا عندما سعى الدكتور السلمى بتأييدهم لوضع معايير لاختيار هذه الجمعية التأسيسية. وهو موضوع يحتدم حوله النقاش هذه الأيام، وربما كان المجلس قد وفر على الوطن كل هذا الوقت والعناء والاختلاف بتعيين لجنة تتفق عليها قوى الثورة لوضع الدستور ويطرح بعدها للاستفتاء. ولنا أن نتذكر أن أفضل الدساتير المصرية قد وضعتها لجان معينة مثل لجنة الثلاثين التى وضعت دستور 1923، ولجنة الخمسين التى وضعت مشروع دستور 1954، بل إن الصياغة الأصلية لدستور 1971 قد وضعتها أيضا لجنة معينة قبل أن يعبث بها مستشارو الرئيس السادات. ومما يبعث على القلق أنه بسبب هذا الاختيار، ونحن على وشك الانتقال إلى انتخاب رئيس الجمهورية القادم، فإننا لا نعرف ماهى الصلاحيات التى سيمارسها، هل يمارس الصلاحيات الواسعة التى يمنحها له الإعلان الدستورى إذا لم تتم صياغة الدستور الجديد قبل انتهاء الفترة الانتقالية، وهذا هو الأرجح، أم أنه سيمارس سلطاته وفقا لدستور لا يعرف أى من المرشحين الرئيسيين لهذا المنصب مضمونه بعد إذا تمت صياغته قبل انتهاء هذه الفترة، وسوف يكون فى الأغلب دستورا يقيم نظام حكم مختلطا يضع فيه الرئيس معالم السياسة الخارجية ويكون مسئولا عن الأمن القومى تاركا اختصاصات وضع السياسة الداخلية لرئيس الوزراء، ولعل القارىء يلاحظ أن أغلب المرشحين لمنصب الرئيس يتحدثون عما سيفعلون فى الاقتصاد والتنظيم الحكومى، وهى اختصاصات لن يمارسونها. والسؤال الآن هو هل كان هذا القرار بإعطاء الأولوية لانتخاب الهيئة النيابية بل ورئيس الجمهورية قبل وضع الدستور يحقق صالح المجلس الأعلى للقوات المسلحة وصالح البلاد. لا شك أن الجواب هو بالسلب، فليس من صالح البلاد أن تهيمن على وضع الدستور قوى حزبية، مهما كانت أغلبيتها، ولكن رؤاها تلقى معارضة قوية من أقسام مهمة من المواطنين حول وثيقة يفترض أن تكون توافقية، كما أن مثل هذا الاختيار يلقى بظلال كثيفة حول مدى كفاءة وعدم الانحياز السياسى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة فى إدارته للبلاد.

 

 

سعى الإخوان المسلمين لتشكيل حكومة قبل انتهاء الفترة الانتقالية

 

ولعل القارىء العزيز يتذكر مظهرا آخر للامعقول فى السياسة المصرية، وهو كل قصة تمويل منظمات أجنبية لأنشطة بعض منظمات المجتمع المدنى فى مصر، وهى قصة لم يكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعيدا عنها، وجرى فيها التهويل حول أبعاد هذا التمويل، وأنه ضار بالأمن القومى، وأنه يسعى لتقسيم مصر، وأنه يرقى إلى التجسس، وعندما حان موعد تقديم المتهمين للمحاكمة تبخرت كل هذه الاتهامات فى الهواء واقتصر الأمر على مزاولة النشاط فى مصر دون الحصول على موافقة الحكومة المصرية، علما بأن الجهات التى نشطت فى توجيه هذه الاتهامات كانت كلها تقريبا تتلقى هذا التمويل، ومن نفس المنظمات التى تتهمها. لا علينا من ذلك فهى قصة فى سبيلها للتوارى فى الذاكرة بعد أسبوع شهد زيارة كل من مدير المخابرات المركزية الأمريكية وزعيمة الأغلبية الديمقراطية فى مجلس الشيوخ الامريكى للقاهرة ولقائهما مع الوفد الذى يصحبانهما مع كل من رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس الشعب، وهذا يدل على عمق الروابط الرسمية بين الحكومة الأمريكية ومؤسسات السلطة السياسية فى مصر.

 

ولكن غير المعقول هو سعى حزب الحرية والعدالة ومجلس شورى الإخوان المسلمين لتشكيل حكومة يقولان إنها ائتلافية بدلا من حكومة الدكتور الجنزورى قبل ثلاثة شهور ونصف الشهر على انتهاء الفترة الانتقالية والتى سيعقبها بكل تأكيد استقالة رئيس الوزراء وتشكيل حكومة جديدة ستتألف تحت قيادة الحزب صاحب الأكثرية فى مجلس الشعب، إما بحكم الدستور الجديد والذى سيهيمن حزب الحرية والعدالة على صياغته مانحا الحق فى تشكيل الحكومة للحزب صاحب الأغلبية البرلمانية، وذلك إذا ماتمت صياغة هذا الدستور قبل انتهاء الفترة الانتقالية، أو بحكم المواءمة السياسية إن لم يكن ذلك قد تم. علما أيضا بأن الإعلان الدستورى لا يعطى مجلس الشعب حق تشكيل الحكومة، ولا يمكن الادعاء بأن لائحة مجلس الشعب تعطى الأغلبية فيه هذا الحق، فالإعلان الدستورى أعلى من اللائحة وهو أيضا أحدث منها، وهو مايجعل أحكامه أولى بالاتباع. هل يحقق تغيير حكومة الجنزورى قبل ثلاثة شهور ونصف الشهر من انتهاء الفترة الانتقالية صالح حزب الحرية والعدالة أو صالح الوطن؟ هل سيتمكن الحزب من إحداث نقلة هائلة فى أوضاع المواطنين المعيشية، وقد تدهورت أوضاع الاقتصاد والأمن كثيرا، وهذا تحد هائل لأى حكومة تتولى إدارة مصر فى هذه الظروف؟ وهل سيعزز هذا التلهف على تشكيل الحكومة صورة حزب الحرية والعدالة فى نظر المواطنين؟ وهل من صالح مصر السقوط فى هوة انتظار اتفاق الأحزاب السياسية الرئيسية على تشكيل حكومة جديدة والتوافق حول توزيع المناصب الوزارية والرجاء أن يستوعب الوزراء الجدد مهام وزاراتهم بسرعة قبل أن يقدموا من جديد استقالاتهم للرئيس الجديد الذى لا بد وأن يضع بصماته هو بدوره على تشكيل الحكومة التى ستعمل معه، خصوصا إذا كان سيعمل فى ظل الإعلان الدستورى إن لم يتم وضع الدستور الجديد قبل انتخابه، والإعلان كما سبق ذكره يعطيه الحق فى تشكيل الحكومة.

 

 

جوانب أخرى للامعقول فى السياسة المصرية

 

وليست هذه هى الجوانب الوحيدة للا معقول فى السياسة المصرية. أذكرك فقط بأنه من المفروض أن يعقب الاستفتاء على دستور جديد، إذا تم ذلك بعد انتخاب الرئيس، هو إعادة انتخاب كل من الرئيس ومجلس الشعب، ومعه مجلس الشورى لأن اختصاصات كل هذه الهيئات ستتغير غالبا فى الدستور الجديد، ومن ثم يتعين تشكيل هذه الهيئات الأساسية وفقا لهذه الاختصاصات الجديدة، لاحظ أيضا أن الإعلان الدستورى سكت عن هذه المسائل.

 

ولكن لماذا تتعدد مظاهر اللامعقول فى حياتنا السياسية بعد الثورة؟، قد تكون هناك أجوبة كثيرة على هذا السؤال، ولكن إحدى هذه الإجابات بكل تأكيد هى أن الفاعلين الرئيسيين على مسرح السياسة المصرية، يمارسونها على نحو غير معقول.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved