هل تصبح الاشتراكية أمل المستقبل فى مصر؟

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 18 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لا أريد أن أنقل شعورى بالأسى لما آل إليه حال مصر بعد سنتين وشهرين تقريبا على بداية ثورة يناير. أزمة اقتصادية طاحنة، وإدارة سياسية قصيرة النظر لأحوال البلاد، ونخبة معارضة لا يبدو حتى الآن أنها قادرة على كسب أصوات أغلبية الناخبين فى انتخابات حرة ونزيهة، وجماهير فقدت ثقتها فى الحكومة والمعارضة، ولا ترى مخرجا لأزمة الحكم فى مصر سوى بتولى القوات المسلحة إدارة الدولة، وإلى جانب ذلك رغبة حثيثة فى إعادة مصر لما قبل الدولة الحديثة فتكون المؤسسة الدينية هى المرجع فى تحديد شرعية السياسات، وتصول جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تفرض رؤيتها لما يجب أن يكون عليه سلوك المواطنات والمواطنين.

 

أستلهم موضوع هذا المقال من مناسبة شاركت فيها مساء الخميس الماضى وهى حفل حاشد فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التأسيسى لحزب التحالف الشعبى الاشتراكى التقيت أثناءها عددا من الأصدقاء وشاهدت بعض زعماء جبهة الإنقاذ، وكان يغمرهم جميعا شعور بالفرح لم يخالجنى شك فى صدقه. لم يكونوا جميعا أعضاء الحزب الوليد، ولكنهم كانوا جميعا من أنصار الاشتراكية. وكان أحد بواعث هذه السعادة هى غلبة الشباب فى حضور هذا الحفل. وكان مصدر الفرح لديهم يقينهم بأن الاشتراكية، هى فى نهاية المطاف، أمل الخلاص لمصر من أزماتها وطريق تحقيق شعارات الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية. ولكن هل يستند هذا اليقين لديهم لما يدعمه على أرض الواقع؟

 

•••

 

لقد كان ذلك هو حلم كثيرين فى الماضى وخصوصا فى النصف الأول من القرن العشرين. اجتذب الفكر الاشتراكى أعدادا مهمة من المثقفين، من فلاسفة وأدباء وفنانين فى كافة أنحاء العالم، فى الدول المتقدمة وفى دول الجنوب بما فيها مصر. فى فرنسا كان كل من المفكر ألتوسير والشاعر أراجون والممثل إيف سان لوران من أعضاء حزبها الشيوعى، وفى مصر ضمت قيادات الاشتراكية اقتصاديين بمقام إسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسى، وأدباء بمكانة يوسف إدريس، ومخرجين سينمائيين مثل يوسف شاهين وصلاح أبوسيف ورسامات مثل انجى أفلاطون. لم يكن ذلك غريبا فقد بدت لهم الاشتراكية منهجا عقلانيا لفهم العالم، ونموذجا للمجتمع يحقق العدالة الاجتماعية ويطلق طاقات الإنسان نحو الإبداع والجمال.

 

ومع أن الاشتراكية فى التطبيق، وفى نموذجها السوفييتى تحديدا لقيت اعتراضات كثيرين منهم، إلا أن وجود الاتحاد السوفييتى ونجاحاته الأولى فى التصنيع والتقدم العلمى ومحو الأمية والاهتمام بالفنون جعلهم يثقون أن الحلم قابل للتحقيق، وأنه إذا كانت هناك مثالب من حيث احترام الحقوق المدنية والسياسية، فإن الأخطاء قابلة للتصويب، والسلبيات يمكن علاجها.

 

ولكن سقوط الاتحاد السوفييتى كان صدمة كبيرة لكل هؤلاء المثقفين ولقطاعات عمالية كبيرة خصوصا فى الدول الأوروبية مثل فرنسا وإيطاليا التى كانت كبريات نقاباتها قلاعا للحزب الشيوعى فى البلدين، وشاعت مقولات تدعى أنه بسقوط الاشتراكية فى أوروبا الشرقية وزحف اقتصاد السوق والشركات الدولية فى الصين وفيتنام والصعوبات الاقتصادية فى كوبا فقد انتهى التاريخ بالانتصار المدوى لليبرالية اقتصاديا وسياسيا.

 

•••

 

 هذه كلها حقائق موضوعية لا مجال لإنكارها رغم أن البعض هرب من الاعتراف بهذه الأوضاع المريرة إلى تصديق نظرية المؤامرة ، فجورباتشوف آخر أمين عام للحزب الشيوعى السوفيتى كان فى رأيهم عميلا للمخابرات المركزية الأمريكية، وهو ادعاء بالغ الهشاشة يغفل عن الأسباب الحقيقية لسقوط النموذج الاشتراكى فى تطبيقه السوفييتى، فلا علاقة لها بشخص جورباتشوف عميلا كان أو غير عميل، فقد تراكمت هذه الأسباب قبل وصول جورباتشوف لمنصبه، وكان أقصر نظرًا وأضعف قدرة على علاجها.

 

ومن ناحية أخرى فالهرب إلى وجهة النظر المقابلة المسرفة فى التبسيط بأن الرأسمالية هى الحل لم يعد مقنعًا بعد عقدين من الزمان من سقوط الاشتراكية، فها هى أزمة الرأسمالية  ظاهرة للعيان فى قلاع الرأسمالية العتيدة. تظهر علامات الأزمة فى تباطؤ النمو الاقتصادى وارتفاع معدلات البطالة واتساع الفجوة فى توزيع الثروات والدخول. وليست الأزمة فى هذه المجتمعات الرأسمالية هى مجرد عجز فى موازنات الحكومات، ولكن عجز المالية العامة يعود إلى إخفاق الحكومات فى دفع النمو الاقتصادى وضمان الخدمات الاجتماعية الأساسية من تعليم ورعاية صحية وإعانات بطالة لأقسام كبيرة من المواطنين. وهكذا ظهرت حركات الاحتجاج الواسعة ضد النظام المالى الرأسمالى فى هذه البلدان المتقدمة وأعلنت بعض هذه الحركات عن عدائها للنظام الرأسمالى.

 

هل يعنى التمسك بالاشتراكية فى هذه الظروف تجاهلا للأسباب العميقة لسقوطها فى الاتحاد السوفييتى وللتحول نحو أساليب الإدارة الرأسمالية فى الصين وفيتنام وارتفاع معدلات النمو فى البلدين مع ابتعادهما عن أسلوب التخطيط المركزى الجامد والإصرار على الملكية العامة لكل أدوات الإنتاج؟ لا أظن أن الداعين إلى الاشتراكية هم من السذاجة بحيث يتصورون أن نموذجها الوحيد هو الاتحاد السوفيتى السابق، أو أن خيال الإنسانية عاجز عن تجاوز ذلك النموذج والحفاظ فى ذات الوقت على روح الاشتراكية باعتبارها هى بداية تاريخ الإنسان الحر.

 

ولكن الوصول إلى هذا النموذج الجديد يقتضى  اجتهادات على مستوى الفكر والخطاب والتنظيم. على مستوى الفكر يجب التخلى عن الاعتقاد بأن الانتقال الفورى إلى الملكية العامة لأدوات الإنتاج هو الطريق العملى لتحقيق العدالة الاجتماعية، وليس من الواقعى فى ظروف مثل مصر أظهر فيها القطاع الخاص نجاحات مؤكدة فى تبنى تكنولوجيات متقدمة والانطلاق إلى أسواق خارجية وتوفير عمالة منتجة لمئات الآلاف بل لملايين من المواطنين أن يكون الحل الاشتراكى لمشكلة مصر الاقتصادية هو الدعوة إلى تأميم الشركات الكبرى للقطاع الخاص. طبعًا المطلوب من هذه الشركات الالتزام بقواعد واضحة تسود فى الاقتصادات الرأسمالية ذاتها من اعتراف بحقوق العمال فى ظروف عمل مناسبة وتنظيم نقابى مستقل ومفاوضات جماعية. كما أن العودة إلى أسلوب التخطيط المركزى الجامد ليس فعالا فى ظل تعدد أنماط الملكية. وقد يفى أسلوب التخطيط الـتأشيرى مع لا مركزية وديمقراطية التخطيط على مستوى الوحدات الإنتاجية بالحاجة إلى النمو المخطط للاقتصاد.

 

وبالطبع لم يعد مقبولا الربط بين الاشتراكية ونظام الحزب الواحد أو ترديد مقولات مثل ديكتاتورية البروليتاريا. فما لم يكن الوصول إلى سلطة الحكم هو من خلال الفوز بأغلبية أصوات المواطنين فى انتخابات حرة ونزيهة، وما لم يكن الحفاظ على التعددية الحزبية والنقابية هو القاعدة الأساسية للنظام السياسى، فسوف يلقى الاشتراكيون فى السلطة مصير الحزب الشيوعى السوفييتى الذى كان غياب الديمقراطية داخله وحوله ومقدمة انصراف المواطنين السوفييت عنه. كما توقفت الأحزاب الاشتراكية فى معظم الدول التى توجد فيها عن إعلان عدائها للمعتقدات الدينية للمواطنين. فحرية العقيدة هى حق أساسى للإنسان. وقد كان مشهد اصطحاب لويجى برلينجوير الزعيم الأسبق للحزب الشيوعى الإيطالى زوجته فى طريقها للكنيسة منظرا مألوفا فى إيطاليا فى منتصف السبعينيات فى القرن الماضى، كما احتفلت روسيا فى ظل جورباتشوف بمرور ألف سنة على دخول المسيحية.

 

•••

 

وأخيرا كل هذه الاجتهادات الفكرية لا قيمة لها ما لم تقترن بخطاب جديد يبتعد عن لغة الخشب، يتوجه إلى عقول المواطنين ويستخدم مفردات حديثهم اليومى ورموز ثقافتهم ويتصالح مع التراث الشعبى المصرى بكل مكوناته، وبدون أن يكون حملة هذا الفكر الجديد هم بتنظيماتهم المتنوعة وسط المواطنين فى كافة القطاعات وفى قلب الحركة الجماهيرية. وعار على الاشتراكيين فى مصر وهم العالمون بأهمية التنظيم أن يتركوا المهارات التنظيمية حكرا على الإخوان المسلمين.

 

ربما لو نجح الاشتراكيون فى مصر فى مواجهة هذه التحديات تصبح الاشتراكية هى الطريق لترجمة شعار : عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية ،إلى واقع.

 

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

 

ومدير شركاء التنمية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved