بالونة زرقاء

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 18 مارس 2016 - 11:10 م بتوقيت القاهرة

اقترب بخطوات سريعة من السيارة. أصر أن آخذها منه فتعللت بأننى لا أحمل سوى ورقة نقدية مرتفعة القيمة، لكنه ألح على أن آخذها دون مقابل. كان يحمل حزمة بالونات عليها رسوم دقيقة وعالية الجودة. أوجه لشخصيات كارتونية معروفة لها ألوان زاهية، بعضها على هيئة قلب وأخرى كما قرص الشمس. ألقى واحدة والسيارة تنطلق واستدار مبتعدا ناحية الرصيف.

حفزنى الطريق الطويل والوقوف المتكرر على الشرود فى أفكار كثيرة مثلت البالونة محورها الرئيس. كانت ذكريات الطفولة أول ما تذكرت؛ بهجة وسعادة غامرة لمرأى بائع البالونات. إلحاح لا يخفت ولا يستكين حتى يستسلم الكبار فيبتاعون واحدة، وكم تاهت الأعين فى كومة تحمل أشكالاً وألواناً لا تنتهى. تذكرت ونحن نربط البالونات صغارا كل فى إحدى قدميه، يعدو أحدنا وراء الآخر قاصدا دهسها، فإذا نجح وظلت بالونته سليمة من دون الأخريات فاز فى اللعبة.

كثيرا ما انفجرت فى وجه أحدنا وهو يبثها أنفاسه بحماسة، طمعا فى أن تكبر وتتمدد وتفوق قريناتها فى أيدى الصحاب، فما نال منها إلا خيبة الرجاء وأحيانا البكاء. بالونات أخرى عرفناها كبارا، تنفجر فى وعينا فتخلف الصدمات والخسائر، فيما تختفى الدمعات.

***

حين شببنا عن طور البراءة أدركنا أن هناك أناسا، كما البالونة وصرنا نصفهم بها مجازا. أشخاص منتفخون لا حجما بل ذواتا، ظاهرون بوضوح، ومثلهم مثل البالونة تماما، لا يحوون قيمة حقيقية؛ لا يحوون سوى الهواء. مولعون بأنفسهم لكن ولعهم لا جذور له ولا أساس. يبدون مكتملى الهيئة والمكانة، وحين يمسهم طرف مدبب يحدث الثقب المميت، وتطل الحقيقة الأخيرة: قطعة مطاط منكمشة لا زهو فيها ولا كبرياء.

ثمة بالونات أخرى مجازية دأبت على صنعها آلات الإعلام فى كل مكان وزمان. منها ما هو مزركش وزاه؛ بما يكفى كى يجذب أنظار الناس بعيدا عن أزمات وقضايا يُراد إبقاءها طى الكتمان، وكأنما هى تجسيد للقول المأثور: «بص العصفورة».

نوع ثان اعتدنا أن نسميه «بالونة اختبار». تطلق فى الهواء، على مسرح الأحداث، بحيث يراها الجميع ويتعاملون معها، ومن ثم يمكن قياس ردود الأفعال تجاهها. لا تنفك هذه البالونات تطلع علينا فى الآونة الأخيرة بكثافة. رأينا بالونة المصالحة مع جماعة معارضة أو أخرى، تطلق مرة بعد مرة ثم تتبخر، ولا يشك متابع للأحداث فى مغزى إطلاقها. رأينا قبل ذلك بالونة رفع أثمان تذاكر المواصلات العامة، ورأينا قياسات الرأى واستطلاعاته الرافضة. أعلن المسئولون أن الأمر محض شائعة، وسكتوا برهة حتى هدأ الناس ثم اتخذوا القرار ورفعوا السعر، وصمت المضارون إذ أنهكهم الصراخ فى المرة الأولى.

بالونة نصف جديدة تحير فيها الفقهاء. تلك هى لقاء بين نائب من مجلس الشعب وسفير الكيان الإسرائيلى. قيل فيما قيل إن الأمر برمته صرف لأذهان الموجوعين من أزمة الاقتصاد كى ينشغلوا عن الشكوى، وقيل إنه اختبار لردود أفعال الناس إزاء شراكة مستقبلية أكثر عمقا وتأثيرا مع العدو الذى كان. شغلتنا البالونة لزمن قصير ثم تلاشى أثرها بانفجار أخرى وأخريات.

***

تظهر البالونات فى المآتم، كما فى الحفلات. أطلق المشيعون عام ألفين، وأحد عشر بالونات سوداء وساروا بنعوش رمزية لشهداء سقطوا فى مواجهات مع قوات الأمن. فى ليلة رأس السنة للعام التالى أطلق مئات وربما آلاف المحتفلين بالونات تحمل العلم المصرى مصحوبة أيضا بصور لشهداء. تغير الأمر قليلاً فى مطلع العام ألفين، وثلاثة عشر، إذ اتجهت تظاهرة من شباب ألتراس المصرى إلى الممشى الملاحى لقناة السويس، تحمل بالونات كبيرة خطت عليها رسائل استغاثة، وكان هدفها الاحتجاج فى مواجهة إجراءات تعسفية اتخذتها الحكومة. مع تغير الأحوال وانقلاب الأوضاع؛ أطلق الناس البالونات فى سماء ميدان التحرير احتفالا بتنصيب الرئيس السيسى منتصف العام ألفين وأربعة عشر، وكانت تحمل هذه المرة صورته الشخصية، ثم ظهرت فى شهر أغسطس من العام ألفين وخمسة عشر بالونات ضخمة تشبه الدببة أو طيور البطريق ــ هكذا وصفتها وسائل الإعلام ــ اصتبغت باللونين الأصفر والبنى، واحتلت ميدان التحرير كأحد مظاهر الاحتفال القريب بافتتاح قناة السويس، لكنها تعرضت إلى سخرية لاذعة من المارة ومرتادى المواقع الإلكترونية على حد سواء، بما دعا المحافظ إلى معاينتها تمهيدا للإزالة. بعد مرور أشهر قليلة، فى الخامس والعشرين من يناير من العام الحالى على وجه التحديد، قدم شابان بالونات مختلفة الشكل إلى بعض أفراد الشرطة، أيضا فى ميدان التحرير. كانت هذه البالونات هى الواقى الذكرى الشهير حاملاً عبارة «من شباب مصر إلى الشرطة فى 25 يناير»، ليصبح الأمر رمزا لسخرية داكنة ومريرة، فقد أشار من دون تصريح إلى ما اشتهرت به الأقسام من انتهاكات جنسية تنال المواطنين.

أخيرا استقبلت البالونات الملونة رئيس الجمهورية كجزء من مراسم تسليم السلطة التشريعية لمجلس الشعب، وقيل إن وجودها طقس مستحدث لم يأتِ به رئيس من قبل. كانت تلك البالونات هائلة الحجم، مثبته فى الأرض وصاحبت وجودها طلقات المدافع الإحدى والعشرين بالتمام، وربما كانت كلاهما؛ البالونات والطلقات، ذات دلالة بليغة، فالخطاب الذى ألقى فى حرم المجلس جاء مشابها لها. أجوفٌ، له قرقعة عالية، وملىء بالهواء.

***

فكرت وأنا فى طريقى إلى خارج السيارة عن مرادف للكلمة فى العربية الفصحى. البالونة كلمة فرنسية الأصل وهى مذكرة لا مؤنثة كما اعتدنا تداولها. لم أجد فى معاجم اللغة ما يشبهها، ولا ما يعوض عنها رغم انتشارها الواسع فى مجتمعاتنا بصورتيها، مادية ومجازية.
مرت أسابيع ولا تزال البالونة الزرقاء على مقعد سيارتى الخلفى ولا تزال البالونات تسطع فى سمائنا وتنفجر هنا وهناك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved