الإسلام المعاصر وحديث المؤامرة

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 18 مارس 2017 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

لماذا حينما اصطدم الشيخ «محمد الغزالى» رحمه الله مع الواقع بخصوص شهادته فى المحكمة فى قضية اغتيال المفكر «فرج فودة» فإنه قد أفتى بعكس ما عُرف عنه من وسطية واعتدال؟ كان هذا هو التساؤل الذى أنهيت به مقال الأسبوع الماضى وأحاول الإجابة عنه هذا الأسبوع.
على الرغم من أنه من الصعب نقل شهادة الشيخ الغزالى كاملة لضيق المساحة لكن يمكن اختصارها بأن دفاع المتهمين قد طلب من المحكمة استدعاء الشيخ الغزالى للإجابة عن مجموعة من الأسئلة وهو ما وافقت عليه المحكمة، وقامت باستدعاء الشيخ الذى وقف ليجيب عن أسئلة الدفاع واحدا تلو الآخر. وجه الدفاع بحسب كتاب القرضاوى (الغزالى كما عرفته: ص ص ٢٨٠ ــ ٢٨٥) عشرة أسئلة أجاب الغزالى عنها جميعا وخلص فيها (وبذكاء من موجهى الأسئلة) إلى أن إقامة الحد على «المرتد المستوجب قتله» واجبة على الحاكم وأن قيام «آحاد الناس» بالقتل نيابة عن الحاكم هو من قبيل «الافتئات» على سلطة الحاكم، لكن حينما سُئل الشيخ عما إذا كان هناك عقوبة للمفتئت على السلطة، فإن الشيخ قد أجاب بالنفى مؤكدا أنه لا يذكر أن له عقوبة فى الإسلام!
كان جزءا من صدمة ردود الشيخ على الدفاع فى المحكمة أنه قبل شهور كان مع المفكر فرج فودة يتناظران فى ندوة لمعرض الكتاب وهو ما وضع أسئلة أكبر حول الحدود بين الخصومة الفكرية وتناولها بالحوار وبين شرعنة القتل والاغتيال لهؤلاء الخصوم!
***
لست هنا فى معرض محاكمة للشيخ وأفكاره لكنى مهتم بالإجابة عن التساؤل الأشمل، لماذا يفشل العلماء (حتى الوسطى منهم) فى الانتصار للحق فى الحياة، ولماذا يبررون ويشرعون قتل الناس بسبب أفكارهم حتى لو تم القتل من قبل «آحاد الناس» واعتباره مجرد «مفتئت على السلطة» لا عقوبة عليه؟!
يمكننا أن نجد إجابات جزئية عبر قراءة الفكر السياسى للشيخ محمد الغزالى وهو فى تقديرى متفق كثيرا مع الفكر السياسى للشيخ القرضاوى وربما لآخرين أقل شهرة لكنهم شكلوا الوعى السياسى لعامة المسلمين فحدثت المعضلة التى مازال يعانى منها الكثير حتى اللحظة.
لعل أبرز ملمح من ملامح الفكر السياسى للغزالى هو تأويله لتاريخ المسلمين ودولهم الإسلامية بشكل شديد التبسيط يصل إلى درجة التسطيح فى معالجة لحظات الهبوط وربطها بالمؤامرات «الصليبية». تمتلئ كتابات الغزالى بتحليلات مكثفة عن دور القوى الصليبية فى هدم دول المسلمين، وعلى الرغم من أن بعض سطور كتبه كانت تحوى نقدا مباشرا ذاتيا لتجربة الحكم الإسلامى، فإن ذلك كان دائما على هامش التحليل لا فى صلبه. حديث المؤامرة حديث مشهور عند معظم من يتحدث باسم الإسلام، والمواظبة على صلاة الجمعة مثلا فى أى مسجد من مساجد مناطق سكن الطبقات الوسطى وما دونها فى جميع ربوع مصر كافية لتسجيل مشاهدات عدة عن كيف أن فرضية «المؤامرة الغربية لهدم الإسلام» حاضرة عند تحليل وتفسير التأخر الحضارى للدول الإسلامية أو العربية.
مشكلة هذه الفرضية هى أنها تتنكر بشدة للسياق الدولى والتاريخى عند تحليل ظاهرة القوة والتى هى مرتبطة بالسياسة وفكرة الدولة. الحروب بين الإمبراطورية العثمانية والبريطانية مثلا لم تكن مؤامرات على الإسلام، بقدر ما كانت صراعات على أدوات القوة والسيطرة بين إمبراطوريات عدة كانت تتنافس على التوسع الاستعمارى، فهل كانت توسعات الإمبراطورية العثمانية من أجل إقامة السلام أو العدالة الاجتماعية مثلا؟ هل لو كانت الإمبراطورية العثمانية سابقة للثورة الصناعية وبالتالى قادرة على تطوير منظومة التسليح وأدوات الحرب ما كانت لتفعل نفس ما فعلته البريطانية؟ الحقيقة أنه كما توسعت الإمبراطورية البريطانية أو الفرنسية فإن العثمانيين قد توسعوا بالقتل والاحتلال والسيطرة، هذه كانت سمات وأدوات هذا العصر! بل إن العثمانيين قد حاربوا غيرهم من المسلمين وخاصة فى المنطقة العربية لنفس الغرض، السيطرة والتوسع!
***
فى شهادته السابقة فى المحكمة فإن الشيخ الغزالى قد أجاب عن سؤال للدفاع يقول: «ما حكم من يجاهر برفض تطبيق الشريعة الإسلامية جحودا أو استهزاء»، على نحو مفاجئ بقوله إن «الشريعة الإسلامية كانت تحكم العالم العربى والإسلامى كله حتى دخل الاستعمار العالمى الصليبى وكرهه للإسلام واضح فألغى أحكام الشريعة الإسلامية وأنواع القصاص، وأنواع التعزير، وأنواع الحدود وحكم الناس بالهوى فيما يشاءون...»!
هذه الإجابة تشكل أزمة مسيطرة على الفكر السياسى الإسلامى المعاصر، ليس فقط لدى الغزالى ولكن لدى الكثير من العلماء المعاصرين. فهذه الإجابة هى أولا غير دقيقة، فالمتابع لتاريخ الدولة، أو بمعنى أدق الدول العباسية، فضلا عن العثمانية يجد أن الشريعة لم تكن تطبق إلا اسما ولا حاجة للتذكير بأحوال «الخلفاء» العباسيين والعثمانيين وجنوح الكثير منهم بعيدا عن أى معانٍ أو مبادئ للشريعة الإسلامية! كما أن قيام الحركات القومية العروبية فى المنطقة لم يكن تعبيرا عن الغزو الثقافى من قبل المستعمر الصليبى «بحسب تعبير الغزالى»، ولكنه كان تعبيرا عن غضب شديد من سطوة الإمبراطورية العثمانية التى كانت تترنح بشدة نتيجة لعوامل ضعف فى بنيتها الداخلية قبل أن يكون بسبب مؤامرة «صليبية» هنا أو هناك!.
حديث المؤامرة والانتصار«الصليبى» عزز لدى الغزالى وغيره ربطا خاطئا بين الخصومة الفكرية أو السياسية وبين الحرب على الإسلام انتصارا للأجندات الصليبية بواسطة المثقفين المستشرقين المحتلين ثقافيا! حتى أصبحت عبارة «مستشرق» تهمة معلبة جاهزة الاستخدام ضد أى تيار فكرى مغاير دون فهم لمعنى الاستشراق أو ظروفه التاريخية!
***
أما السؤال الأهم والذى يفشل معظم العلماء المعاصرين فى الإجابة عنه فيقول: «ما هى التطبيقات السياسية للشريعة؟» لا نعلم إجابة محددة حتى الآن قادرة على تجاوز ترديد العبارات التقليدية مثل أن الإسلام «دين ودولة» أو أن «الشريعة الإسلامية واجبة التطبيق»، فمعظم الإجابات تركز على قضية الحدود وتترك معظم أسئلة السياسة الكبرى المتعلقة بتصور وضع نظام سياسى مبنى على الشريعة الإسلامية! الإجابات المتجزئة هنا عن «الشورى» لا تكفى إطلاقا لأن أسئلة السياسة الكبرى تتعلق بتنظيم الحياة المعاصرة بكل ما طرأ عليها من تغيرات مفاهيمية وقيمية ومادية وتنظيمية مقارنة بالعهود السابقة أيام الرسول (عليه الصلاة والسلام) أو فى دول الخلافة من بعده!
قراءة التاريخ الإسلامى منذ أحداث الفتنة ونشأة الدولة الأموية مرورا بالعباسية والعثمانية وغيرها من دول الخلافة المتصارعة التى ظهرت فى نفس التوقيت ومقارنة كل ذلك بالتطور السياسى العالمى فى سياقه التاريخى تقول أن تجربة الحكم الإسلامية هى تجربة بشرية بحتة استجابت لمنطق العصر ولاستراتيجيات التوسع والسيطرة ولم يكن فيها شىء إسلامى سوى اسمها! كل دولة حكمت بأدوات مختلفة وبتنظيمات سياسية متنوعة وبعشرات العقود والمعادلات المكتوبة وغير المكتوبة بين الحاكم «الخليفة» وبين بطانته الدينية والسياسية، وبينه وبين شعبه، لم يكن هناك شىء إسلامى يجمع بين كل هذه التجارب سوى الاسم، أما التفاصيل فقد حددها البشر متفاعلين مع ظروف العصر كل فى وقته وزمانه!
هذه الحقيقة ربما تكون مؤلمة للكثيرين، ولكنها حقيقة تاريخية مجردة غير مؤدلجة، إجابة الشيخ الغزالى فى المحكمة إجابة خاطئة تاريخيا ربما كانت تعبر عن قصور سياسى فى قراءة التاريخ، أو ربما عن عدم علم أو تسرع أو غيرها من الأسباب البشرية التى يمكن أن يعانى منها أى بنى آدم طبيعى تحت ضغط الشهرة والاتباع، وتحت ضغط اللحظة العصبية وقتها «اغتيال خصم فكرى» ثم اتهامه بالارتداد والدعوة لحكم «طواغيت البشر»! لكن إجابات آخرين لم يخضعوا لنفس اللحظة الضاغطة كانت مطابقة لإجابة الغزالى، عجز تام عن قراءة التاريخ والإصرار على وهم ربط التوقف عن «تطبيق الشريعة» بالاستعمار الصليبى! كلها إجابات عاطفية عصبية تعبر عن الرغبة أو الحلم أو التمسك بتلابيب الماضى وترفض الاعتراف بحقائق تطور فكرة الخلافة الإسلامية وتطبيقاتها والفصل فيها بين ما هو بشرى وما هو مقدس!.
***
فى بيانه الأخير بخصوص الأزمة بين تركيا وهولندا، قال الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين الذى يترأسه الشيخ القرضاوى فى إحدى نقاط التعقيب على الأزمة أن ما يدعو إليه أردوغان من تعديلات دستورية تحول النظام التركى من النظام البرلمانى إلى الرئاسى، وبمد فترات حكم أردوغان وبشكل يقتل الديموقراطية عمليا بأنه «النظام الذى يتفق مع التعاليم الإسلامية، التى تجعل أمير المؤمنين أو الرئيس الأعلى هو رقم (١) فى السلطة»!.
على الرغم من أن للشيخ القرضاوى كلام معاكس تماما لهذا التبسيط المخل لتعاليم الإسلام وربطها ببؤس شديد بتحول أدروغان الديكتاتورى، ورغم أن شيوخ الوسطية والاعتدال ومنهم الشيخ الغزالى رحمه الله قد خصصوا كتبا ومجلدات فى رفض مهادنة العلماء للسلاطين وخصوصا المستبد منهم، لكن كالعادة وقت الاختبار الواقعى يكون التناقض وعدم القدرة على الاتساق! هنا نتساءل، هل حقا هناك نظام سياسى بعينه يمكن أن نطلق عليه «النظام السياسى الإسلامى» أو النظام الذى يفضله الإسلام؟ إذا كانت الرسالة الإسلامية تعلى من قيم العدل والمساواة والإخاء، فلماذا يتخذ الكثير من علماء المسلمين مواقف بها هذا القدر من المهادنة مع السلاطين المستبدين على أرض الواقع متنكرين لمواقفهم فى عالم الأفكار؟ هذا ما أحاول الإجابة عليه فى مقالات مستقبلية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved