ما هو ثمن برنامج اقتصاد إيران المقاوم؟

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأربعاء 18 مارس 2020 - 10:25 م بتوقيت القاهرة


نشرت مؤسسة البيت الخليجى للدراسات والنشر مقالا للكاتب «صباح نعوش» تناول فيه محاولات إيران التصدى للعقوبات الأمريكية عن طريق إصلاحات اقتصادية لا تعتمد على واردات النفط، إلى جانب المشاكل التى أدت إلى تدهور مستوى معيشة المواطنين الإيرانيين.. نعرض منه ما يلى.

يحاول برنامج «الاقتصاد المقاوم» فى إيران التصدى للعقوبات الأمريكية بطرق عديدة. لكن هذه العقوبات أفضت إلى خلق أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة ترتبط بمالية الدولة وبالحالة المعيشية للمواطنين. تتعقد الأزمة فى إيران بمرور الزمن، وعليه، يصبح ثمن التصدى باهظا ويطرح تساؤلات عدة حول جدواه من الزاوية الاقتصادية.
يمثل هذا البرنامج ردا على العقوبات الأمريكية من جهة وطريقا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. يرتكز على محاور تشمل الميادين التجارية والمالية والصناعية وكذلك السياسية، ويمكن حصرها بخمس نقاط. الاعتماد على القدرات الاقتصادية المحلية، الاهتمام بالبحوث العلمية للأغراض الصناعية، تقليص تبعية الاقتصاد للنفط وإجراء إصلاحات اقتصادية. وتتم إحاطة جميع فقرات البرنامج، بما يطلق عليه الإيرانيون «العامل الجهادى والروح الوطنية».
على الصعيد العملى ظهرت صعوبات كبيرة حالت دون تنفيذ هذا البرنامج على الوجه الأكمل. كما تطغى المفاهيم السياسية والدينية على الاعتبارات الاقتصادية، فعليا، أصبح البرنامج يعنى مقاومة العقوبات الأمريكية بأى ثمن.
مما لاشك فيه، حققت إيران تقدما منقطع النظير فى الميدان التكنولوجى والتطوير الصناعى المدنى والعسكرى مقارنة ببلدان المنطقة. خلال فترة قصيرة ازدادت القيمة المضافة للصناعات التحويلية وارتفع عدد البحوث العلمية، وبالتالى الاختراعات وتطورت الصادرات غير النفطية. قاد هذا التحول إلى تحسين القدرات الاقتصادية المحلية.
رغم ذلك، لم تحرز الإصلاحات الاقتصادية نتائج إيجابية. ويعود فشلها إلى ثلاثة أسباب رئيسة: السبب الأول هو عدم إمكانية محاربة الفساد المالى المستشرى فى جميع مفاصل الدولة. السبب الثانى هو ارتفاع الإنفاق العسكرى نتيجة التدخلات الخارجية. والسبب الثالث السياسة المالية المتبعة التى تعتمد على التمويل النقدى للعجز المالى، وما يترتب عليها من ارتفاع معدلات التضخم وتراجع سعر صرف الريال.
تقليص التبعية الاقتصادية للنفط حقق نجاحا نتيجة الاهتمام بالتكنولوجيا. وتؤكد الخطة الاقتصادية الحالية على ضرورة إجراء تقليص تدريجى لأهمية النفط فى الاقتصاد بواقع 5% سنويا. وهنالك اتجاه قوى يدعو إلى الاستغناء الكامل عن الإيرادات النفطية فى الميزانية الاعتيادية للسنة المالية القادمة 2020 ــ2021 وتخصيص هذه الإيرادات للاستثمارات فقط.
لابد من ملاحظتين حول هذه النقطة. الملاحظة الأولى عدم إمكانية الاستغناء عن العوائد النفطية فى مالية الدولة. إذ إن فكرة استغناء الميزانية العامة عن النفط سياسية بالدرجة الأولى لمخاطبة الرأى العام المحلى. ولا تعدو أن تكون طريقة للاستخدام المالى. إذ لابد من القيام بعمليات استثمارية سواء عن طريق الإيرادات النفطية أم عن طريق الحصيلة الضريبية أو عن طريق القروض وهكذا. وبالتالى لا فرق من الناحية المالية من استخدام العوائد النفطية فى الميزانية الاعتيادية أم فى الميزانية الاستثمارية. والملاحظة الثانية أن تقليص أهمية الإيرادات النفطية فى الاقتصاد خطوة إيجابية تعالج مشكلة الريعية. لكن هنالك فرقا شاسعا بين تقليص هذه الأهمية وهبوط الإيرادات النفطية. معالجة الريعية لا تستوجب خفض العوائد النفطية بل بالعكس لأن عمليات التصنيع والتطوير تتطلب رصد الأموال الطائلة. تعانى إيران من عقوبات أدت إلى هبوط حاد للإيرادات النفطية. هذه العقوبات هى التى أفضت إلى انخفاض أهمية العوائد النفطية فى الاقتصاد وليست تلك العمليات الصناعية.
على الأرض، أصبح هدف برنامج الاقتصاد المقاوم التصدى للعقوبات الأمريكية بدلا من أن يكون خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبالتالى، غالبا ما يطرح هذا السؤال: هل تستطيع إيران بموجب هذا البرنامج الصمود أمام العقوبات الاقتصادية؟ وبعبارة أخرى هل ستفضى هذه العقوبات إلى انهيار النظام السياسى الإيراني؟
بكيفية عامة يمكن لأية دولة الصمود بوجه العقوبات الاقتصادية خاصة عندما لا تكترث أنظمتها السياسية لما يصيب المواطنين من أزمات خطيرة وعندما تطغى مصالح الحكام على المصلحة العامة. ستصمد إيران كما صمدت جميع الدول العربية التى فرضت عليها مقاطعة صارمة. فلم يسقط النظام العراقى السابق بسبب العقوبات الأممية رغم كونها أشد بكثير من العقوبات الأمريكية الحالية المفروضة على إيران.
فى السابق لم تقد العقوبات ليست فقط الأمريكية بل كذلك الأوروبية والأممية إلى نتائج اقتصادية سلبية باستثناء تجميد بعض الأصول المالية. بل أسهمت بصورة غير مباشرة فى تحسين جميع الأنشطة الاقتصادية فازدادت الصادرات الصناعية. لكن العقوبات الأمريكية الحالية تختلف كليا عن العقوبات السابقة خاصة فى ميادين الصادرات النفطية والمعاملات المالية الخارجية. لم يعد الأمر يرتبط فقط بالعلاقة بين إيران والولايات المتحدة بل بإيران والعالم الخارجى. كما لا يقتصر الاختلاف على النصوص بل شمل أيضا التنفيذ. خلال فترة لا تتجاوز السنتين أدت العقوبات الأمريكية إلى تدهور هائل للاقتصاد الإيرانى.

أزمة اقتصادية خطيرة
يعانى الشعب الإيرانى من فشل السياسة الاقتصادية المتبعة ومن تشدد الإدارة الأمريكية. أدى الصمود الإيرانى إلى كارثة اقتصادية واجتماعية ذهب ضحيتها جميع المواطنين.
تتبين ملامح هذه الكارثة من خلال المشاكل التالية التى أدت إلى تدهور مستوى معيشة المواطنين وإلى استياء شعبى واسع النطاق.
أولًا ازدياد البطالة: وفق تقارير صندوق النقد الدولى انتقل معدل البطالة فى إيران من 13.9% فى عام 2018 إلى 15.4% فى عام 2019. كما باتت هذه المشكلة تشمل أصحاب الشهادات الجامعية.
ثانيًا ارتفاع الأسعار: وفق تقديرات صندوق النقد الدولى بلغ المعدل العام للتضخم فى إيران 31.2% فى عام 2018 وارتفع إلى 37.2% فى عام 2019. وحسب تقارير مركز الإحصاء الإيرانى وصل المعدل العام للتضخم 41.6% للعام الجارى 2109ــ2020. كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 58.4%. يتزامن هذا المعدل المرتفع مع تزايد البطالة وتراجع سعر الصرف فتتصاعد بالتالى حالة الفقر.
ثالثا تفاقم الفقر: هنالك تقديرات عديدة لمستوى الفقر فى إيران. يرى برلمانى أن 55% من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر. ويقول آخرون أن 19 مليون شخص فى حالة فقر مدقع. ويرى البعض حاجة ثلاثة أرباع السكان لمساعدات مالية لشراء المواد والخدمات اليومية الضرورية للمعيشة. ارتفع الفقر بسبب العقوبات الأمريكية وكذلك نتيجة سوء إدارة الشأن العام خاصة الفساد المالى.
رابعا تراجع سعر صرف الريال: أدت السياسة المالية والعقوبات الاقتصادية وعجز ميزان المدفوعات والتهافت على شراء العملات الأجنبية إلى تراجع دورى وتدريجى لسعر صرف الريال. انتقلت القيمة التعادلية للدولار فى السوق الموازية من 32 ألف ريال فى فبراير 2017 إلى 150 ألف ريال فى فبراير 2020. يترتب على ذلك ارتفاع التضخم وتردى القوة الشرائية للمواطنين.
خامسا عجز ميزان المدفوعات: يعانى من عجز كبير قدره ثمانية مليارات دولار قبل تطبيق العقوبات الأمريكية. ورغم أن الإحصاءات الإيرانية باتت شحيحة فى هذا الميدان فإن العقوبات الأمريكية قادت بالضرورة إلى تفاقم هذا العجز. عندئذ تضطر الدولة إلى تقليص وارداتها فتتأثر العملية الاستثمارية وإلى اللجوء إلى القروض الخارجية فتزداد المديونية العامة. وهكذا انتقلت الديون الخارجية من خمسة مليارات دولار فى عام 2015 إلى عشرة مليارات دولار فى عام 2019.
لا يشكل هذا الحجم خطرا كبيرا على اقتصاد البلد لأنه لا يمثل سوى 3% من الناتج المحلى الإجمالى. لكن المشكلة تكمن فى استمرار وسرعة تزايده. وكذلك تزامن هذا الارتفاع مع هبوط الإيرادات النفطية. يترتب على ذلك تخصيص نسبة أكبر من الصادرات لسداد أقساط وفوائد الديون. عندئذ يهبط التصنيف الائتمانى للبلد حيث لم تحصل إيران إلا على درجات متدنية فى تقديرات الوكالات العالمية المتخصصة. وبطبيعة الحال كلما زاد الدين هبط مستوى المعيشة لأن الأموال العامة بدلا من أن تنفق على المواطنين تذهب إلى الدائنين.
سادسا ارتفاع الإنفاق العسكرى: يعود إلى عدة أسباب فى مقدمتها التوتر فى منطقة الخليج وتدهور العلاقات من الولايات المتحدة مع احتمال وقوع نزاع مسلح. واستمرار التدخل فى العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول عربية أخرى. والحراك الشعبى الإيرانى الذى يستوجب التصدى له مصروفات أمنية.
أسهمت هذه العوامل مساهمة فاعلة فى تردى الوضع المالى للبلد وتزايد عجز الميزانية العامة. ويمكن تقدير النفقات العسكرية (مصروفات الجيش والحرس الثوري) بحوالى عشرين مليار دولار فى السنة. وهذا المبلغ يفوق جميع الإيرادات النفطية الحالية.
سابعا تصاعد العبء الضريبى: تفترض الميزانية الحالية الحصول على إيرادات ضريبية قدرها 1950 ترليون ريال. وهى بذلك تحتل المرتبة الأولى فى مالية الدولة الداخلية تليها العوائد النفطية والغازية.
يحتوى النظام الضريبى الإيرانى على ضرائب مباشرة مفروضة على الدخل والربح ورأس المال وضرائب غير مباشرة على استهلاك السلع إضافة إلى الرسوم الجمركية على الاستيراد.
أثرت العقوبات الأمريكية بشدة على الصادرات النفطية. ولا تجد السلطات المالية بدًا من اللجوء إلى الضرائب. كلما هبطت الإيرادات النفطية زادت حصيلة الضرائب. وكلما زادت هذه الحصيلة تراجع مستوى المعيشة خاصة وأن أكثر من نصف هذه الحصيلة يأتى من الضرائب غير المباشرة والرسوم الجمركية أى تلك التى ترتبط بأسعار السلع والخدمات.
ومن المعلوم أن الاقتصاد الإيرانى يعانى بسبب العقوبات من انكماش شديد سيصل إلى 8.7%. كما ستتراجع القيمة المضافة للصناعات بنسبة 19.1% (تقديرات البنك العالمى للعام الجارى 2019ــ2020). وبالتالى تفترض الإدارة المالية الرشيدة تقرير إعفاءات سخية. فى حين اتخذت السياسة المالية اتجاها معاكسا. سيقود تزامن الانكماش مع تزايد الضرائب إلى نتائج اقتصادية واجتماعية خطيرة.
كما تعانى إيران من مشكلة أخرى لا تقل خطورة وهى ظاهرة التهرب الضريبى نتيجة الفساد المالى المستشرى. ومن المظاهر الواضحة لهذا التهرب والمعروفة لدى الإيرانيين عدم خضوع أصحاب النفوذ للضرائب.
***
ينبغى على الإيرانيين بذل الجهود فى الإجابة على هذا السؤال؟ ماذا لو تم التخلى عن البرنامج النووى والامتناع عن التدخل فى الشئون الداخلية لدول الجوار ومنح حريات واسعة للمواطنين وتطبيق إصلاحات مالية حقيقية؟ لاشك أن هذا التغيير سيؤهل إيران لتكون قوة اقتصادية هائلة فى المنطقة، سيرتفع مستوى المعيشة وتتقدم الصناعات ويزداد معدل النمو وتنتهى المعاناة من الفقر والبطالة والتضخم. ناهيك عن تحسن العلاقات مع البلدان العربية عامة والخليجية خاصة.
نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة لا تدع مجالا لمثل هذا السيناريو. سيستمر إذن الصمود الإيرانى وسوف تتجه أحوال المواطنين من سيئ إلى أسوأ. وستتصاعد الصراعات فى المنطقة.

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved