الرئيس اللبناني.. فدائي بكبسة زر لا كلمة سر

طارق فريد زيدان
طارق فريد زيدان

آخر تحديث: السبت 18 مارس 2023 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

شرّع الاتفاق الثلاثى بين الصين والسعودية وإيران أبواب التأويل والتفسير لمصير كرسى الرئاسة الأول فى لبنان. البعض ذهب إلى إعلان موت المحاور الإقليمية. وآخرون إلى قرب صدور كلمة السر الرئاسية.
يعيد الاتفاق السعودى الإيرانى عقارب الساعة تسع سنوات إلى الوراء. يوم كانت هناك علاقات دبلوماسية بين الرياض وطهران تزامنا مع فراغ رئاسى أقام فى بيروت أكثر من سنتين ونصف السنة. ومن يراجع التاريخ سيجد أن الفراغ الرئاسى داهم بيروت فى العام ٢٠٠٧ وكانت هناك أيضا علاقات دبلوماسية بين دمشق والرياض وبين الرياض وطهران. المقصود هو أنه إلى حين وصول تأثير الاتفاق الثلاثى ضفاف البحر المتوسط سيظل الاستحقاق الرئاسى اللبنانى، من وجهة النظر السعودية، رهن آليات ومناخات داخلية وخارجية لا يمكن التحكم بها بسهولة. فما هى وجهة النظر السعودية؟
• • •
لا يملك مراقب للحركة النشطة والمتكررة على خط بيروت ــ الرياض تفسيرا أو تأثيرا على جدار الصمت السعودى تجاه الاستحقاق الرئاسى، خاصة أن الحركة مقتصرة على فريقين سياسيين لبنانيين وبعض المستقلين الساعين إلى كسر جدار الصمت. فى الوقت ذاته، يوحى هؤلاء لحلفائهم وأخصامهم اللبنانيين على السواء أنهم يستطيعون ترجمة الصمت السعودى بسياسة ما أو تزكية ما لمرشح دون آخر، لتخرج بعدها وسائل التواصل الاجتماعى بأخبار وخبريات لم ينزل الله بها من سلطان. رحلة من بعد رحلة ولبنان البلد يتعرض للاستنزاف الاقتصادى والمالى والنقدى والإرهاق الاجتماعى جراء انتشار مرض الفراغ فى أجهزته الحكومية إلى حد انتفاء معالم الدولة.
ما يجرى اليوم من تحليل للموقف السعودى من قبل أطراف داخلية لبنانية إزاء الاستحقاق الرئاسى يُبرهن عن فهم ضيق لمعنى الصمت السعودى وليس للمصالح والسياسة السعودية فقط، لكأن حوارا يدور بين اثنين وبلغتين مختلفتين. وبينما يصر جانب لبنانى على الحوار بلغة لا يريد سماعها أهل الرياض، فإن شعار الحرية والسيادة والاستقلال أثبت عقمه وصار مجرد لغة خشبية لا تغنى ولا تسمن من جوع.
كما أن اللغة السياسية التقليدية اللبنانية التى تكاد «تؤمن» بالفرادة اللبنانية فى استدراج الخارج انتهت أيضا، من وجهة نظر السعوديين، حتى أن لغة دعم طائفة محددة على حساب أخرى أو مذهب محدد على حساب مذهب آخر، ولّت من دون رجعة. فالرياض، وأقصد رياض اليوم، لا تنظر إلى بيروت من خلال الجماعات والألوان، ولا حتى من خلال صيغتها الفريدة أو ديموقراطيتها التوافقية أو بنيانها السياسى أو الطائفى الهش. هى تنظر إلى لبنان لناحية مردوده ونتائجه. بمعنى آخر، لا تبدو الرياض مهتمة بأصل إدارة الاستحقاق الرئاسى لا فى بيروت ولا فى أى عاصمة أخرى. هى تريد إدارة نتيجة هذا الاستحقاق فى بيروت وفى غيره من العواصم تبعا لمنظومة قيمها ومصالحها، أيا كان الفائز بكرسى الجمهورية الأول. هناك خارطة طريق سعودية تبدأ من ورقة الكويت وتمر بورقة نيويورك وصولا إلى ورقة باريس (التى هى ورقة نيويورك مطعمة بحضور مصر وقطر) .
قد يقول قائل إن الأحزاب والطوائف اللبنانية أقوى من أجهزة الدولة اللبنانية. وهذا صحيح. وأن حزبا لبنانيا بكل ما يمتلك من نفوذ وترسانة سلاح وإعلام هو قضية إقليمية أكبر من لبنان. ربما يكون هذا صحيحا من وجهة نظر لبنانية، لكن ما الذى يمنع 128 نائبا فى البرلمان اللبنانى من انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ هل للفريقين الناشطين على خط بيروت ــ الرياض المقدرة أو الجرأة على انتخاب رئيس فى ظل الصمت السعودي؟
• • •
بلغة الأرقام، لو توفر النصاب الدستورى وصوّتت كتلة أحد هذين الفريقين لمصلحة زعيم تيار المردة سليمان فرنجية أو قائد الجيش اللبنانى العماد جوزاف عون بكل تأكيد سيكون للبنان رئيسه فى اليوم نفسه، لكن هل يفعلها البعض ويتحمل مسئولية قراره من دون أن تأتى إليه كلمة السر المعتادة منذ زمن خط بيروت ــ الشام؟
بلغة السياسة، لبنان المأزوم حتى النخاع بحاجة إلى أى رئيس. بحاجة إلى من يملأ الفراغ المقيم جراء حسابات خارجية وهمية. اتفاق نووى جديد أو تطبيع بين الرياض وطهران. لكن بقوة الحقائق اللبنانية والإقليمية، فإن الاتفاق الثلاثى يرسم خريطة جديدة على ضفتى الخليج العربى وربما البحر الأحمر مفتاحها سكوت المدافع فى اليمن، لكن البحر الأبيض المتوسط قضية أخرى تلامس حدود الأمن الأطلسى. على الطبقة السياسية اللبنانية فهم حركة السعودية ضمن هذا السياق الجديد.
إلى الآن لا توجد كلمة سر. ولربما لن تأتى. وإلى حين صدورها، لبنان لا يحتمل الانتظار. قد تكون هذه هى المرة الثانية فى تاريخ الجمهورية اللبنانية التى ينتخب فيها رئيس جمهورية لبنانى صنع فى لبنان.
على الطبقة السياسية فى لبنان مجتمعة مراجعة حركة الرياض فى السنوات الأخيرة على الساحة الدولية لفهم لغتها السياسية المستجدة. ولفهم معنى صمتها تجاه الاستحقاق الرئاسى. أحد شواهد عدم فهم هذه اللغة المستجدة هو إصرار البعض فى بيروت على اعتبار صمت المملكة تأبينا لاتفاق الطائف.
ثمة استدراك لا بد منه. الرياض تراجع علاقاتها الدولية والإقليمية. هى لا تريد إنهاء اتفاق الطائف بمقدار ما تريد التوصل إلى آلية تنفيذية جديدة لهذا الاتفاق. آلية تأخذ فى الاعتبار أمورا أساسية فى سياق التحول الجيوبوليتيكى والاقتصادى العالمى، أبرزها موقع المملكة فى التحولات الدولية المقبلة من خلال مشاريعها ورؤيتها لنفسها وللجوار وللعالم بأسره. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا دعم وودائع وهبات سعودية لأى كان من دون حساب أو رقابة. لا أحد يحتكر العلاقة مع الرياض. فالاحتكار فساد والسعودية تحارب الفساد فى المملكة فكيف لها أن تُموّله فى بيروت أو فى أى عاصمة عربية أخرى؟
وإذا كانت الرياض قد قررت تصويب آلية علاقتها الاستراتيجية التاريخية مع الولايات المتحدة من خلال إعادة تصويب الاتفاق الذى جرى على متن البارجة الأمريكية كوينسى، خلال اللقاء الشهير بين الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن والرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت قبل أكثر من تسعة عقود، ما الذى يمنعها من إعادة تصويب آلية تنفيذ اتفاق الطائف ولم يتجاوز عمره الثلاثة عقود ونصف العقد؟
فى الأصل، لا تعتبر الرياض اتفاق الطائف بداية نفوذها اللبنانى. اتفاق الطائف وسيلة وليس غاية. لكن عندما تتحول الوسيلة إلى عنصر سلبى مُستنزِف للمال والطاقات لن تخجل الرياض من إعادة تصويبها. وهو مقتضى ما يقال فى الإعلام السعودى عن استغلال الطبقة السياسية اللبنانية للدعم السعودى.. وهو ما يقوله الشعب اللبنانى كذلك، فهل هناك فى لبنان من يُثبت للبنانيين أن ما نفذ هل كان اتفاق الطائف أم تفاهمات واتفاقات أخرى.. والدليل أين ذهبت آلية إلغاء النظام الطائفى فى لبنان وهو علة العلل؟
• • •
خط الرياض ــ بيروت السياسى على زخمه سيبقى عبارة عن «جعجعة» بلا طحين، طالما لا أحد فى لبنان يلتقط مفردات اللغة السعودية الجديدة أو حتى الصمت السعودى الجديد. الرياض تبحث عن شريك مُطوّر لا عن مقاول من الباطن. تبحث عن سياسة مستدامة لا عن سياسة موسمية. طال الانتظار فآثرت الصمت. والصمت أبلغ من التصريحات أحيانا. وكلاهما فعل سياسة. لأجل ذلك صنعت المؤسسات التى تتحدث بلغة السياسات وليس بلغة الأفراد. هذا إحدى أبرز مشاكل العلاقة السعودية اللبنانية. الطرف اللبنانى يصر على مزاولة الحوار عن طريق الأفراد لا المؤسسات.
يقول الصحفى والدبلوماسى اللبنانى الراحل غسان توينى إن كل رئيس للجمهورية فى لبنان يبدأ عروبيا وينتهى انعزاليا. فتى العروبة الأغر كميل شمعون أصبح فى آخر عهده أحد أركان «تحالف بغداد». إميل لحود بدأ عهده «مُحررا» للجنوب اللبنانى وانتهى وحيدا فى القصر. ميشال عون دشّن عهده من زيارة خارجية أولى إلى الرياض وأنهاه بتوقيع ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، فإذا دشّن الرئيس المقبل عهده بتوقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولى فى أى «جل لبنانى أو محور عربى» سينتهى؟ وعلى سيرة عروبة لبنان، أى عروبة يريدونها فى الرئيس؟ ومتى يريدونها؟ وهل من عروبة من دون اقتصاد أو حتى من دولة؟
المجتمع الدولى يأخذ من لبنان بالقطعة لا بالجملة. وكثرة الحركة لا تعنى الإنتاجية. سوء الفهم بين الدول يحتاج إلى التفاهم لا إلى المنطق. يحتاج إلى الاتفاق على الأولويات والمفاضلة بين ما هو مهم وما هو أهم. هل يستطيع الساسة اللبنانيون عمل الشىء ذاته؟ ليس مهما اسم الرئيس لكن الأهم برنامج عمله. والبيئة السياسية اللبنانية لديها تراكم مفاهيم عن السعودية على مدى سنوات تأبى أن تغيرها.
ختاما، وبلغة الأرقام: هناك أكثر من عشرين اتفاقا اقتصاديا بين الرياض وبيروت يمكن تفعيلها بكبسة زر وليس بكلمة سر. من سيكون «الفدائى» الذى سيكبس هذا الزر؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved