«كل يوم تقريبا».. دوائر الروح المعذبة

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 18 مارس 2023 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

تبدو كل كتابة تعبيرا عن الذات، حتى لو كانت من وراء أقنعة شخصياتٍ أخرى، وهذا النص المؤثر، محوره تلك الأقنعة التى لا تؤدى إلى الهروب من الذات، ولكنها الحيلة اللازمة للعودة إليها.
«كل يوم تقريبا» رواية محمد عبدالنبى الصادرة عن دار المحروسة، هى حكاية الروح المعذبة، سجينة البدن الضعيف، والعقل المؤرق، والقلب الذى تتنازعه الأهواء، والحائر بين دوائر الوحدة والضجر واليأس، قصة الأمير الفقير، الحالم رغم كل الألم، بأن يولد كإنسان جديد.
تتقاطع تفاصيل حياة بطل الرواية فؤاد عبدالرسول مع تفاصيل حياة المؤلف محمد عبدالنبى، وتلعب دفاتر الذكريات المكتوبة دورا محوريا فى الإحالة إلى مفهوم السيرة المروية، ولكن أشباح البطل التى تكتب قصته، تعيدنا مرة أخرى لمفهوم القناع، الذى يسمح بحريةٍ أكبر فى الفضفضة، وفى السيطرة على مادة السرد بتضاريسها المؤلمة، كما تسمح هذه الحيلة بتقديم التحية للكتابة وللفن كخلاص حقيقى للشخصية، وإن كان البوح المباشر هو الحل الفنى الأفضل، يتضح ذلك عندما تغيب سيرة الأشباح، فلا نفتقدها أبدا، بل إن أفضل مناطق السرد عندما يتحدث فؤاد بنفسه إلى أشباحه، أو عندما تنقل الأشباح من مذكراته، التى تترجم بامتياز فكرة عذاب الروح، وبلغة شعرية أحيانا.
ستدهشك هذه الرغبة العارمة فى تشريح الذات، ومواجهتها، ومحاكمتها أحيانا، وسيزعجك أحيانا فائض التفاصيل، لاستقصاء أصل الحكاية، بداية من الأب والأم والأجداد، وستجد مراوحة بين السرد التقريرى التوثيقى أحيانا، والسرد الشاعرى الذى يطارد العواطف والأحلام والكوابيس، ومزيجا من الاستبطان الداخلى، ورسم ملامح شخصيات الرفاق والمعارف، وكثير منها فريد وغريب، ويصلح أن يكون مادة لروايات مستقلة، مثل فيفى هانم، سيدة الإحسان والكتابة الرديئة، ومثل رفاق السوء محمود وجورج، ومثل المهندس نادر شريك اللذات المختلسة.
ولكن كل هذه الأدوات تتعاون فى النهاية لتضع بين يديك بورتريها واضحا لشخصية فؤاد، الذى يتأرجح مثل البندول طوال الوقت، والذى يبدو معلّقا بحبالٍ لا يريد أن يقطعها، تشده مرات إلى المخدر والخمر،
وإلى تلبية مطالب الجسد، بعلاقاتٍ مثلية غير مستقرة، وتشده أحيانا إلى السماء، والرغبة فى التطهر، وتشده دوما إلى المعرفة والثقافة والسمو بالفن، والخروج من خندق الفقر بسلاح العلم، وكل حبل يأخذه فى اتجاه.
أزمة فؤاد كما يرسمها النص مصدرها هشاشة داخلية عميقة، ووعى حاد بهذه الهشاشة، بالإضافة إلى ظروف الفقر وعدم التحقق، وقانون السرد هو الدائرة المحكمة، واستمرار الثنائيات على كل المستويات، والصراع داخلى بالأساس، وحتى عندما يتجاوز فؤاد سنوات التعليم، ويبدأ فى تجربة حظه فى سوق العمل والترجمة، يظل مثقلا بتناقضاته، ويظل مسكونا وواعيا بأنه معلّق فى الهواء، يهرب إلى البارات، ويخوض مغامراتٍ خطيرة، ولكنه يعود من جديد إلى مواجهة نفسه وأشباحه.
فكّر بعد أن تجاوز الأربعين بعدة سنوات أن يحرق دفاتر ذكرياته، فانتزعتها منه أشباحه، وقررت أن تكتبه، وتصنع شيئا من فوضى حياته، قررت أن تضع أمامه كل الأقنعة التى ارتداها، وأن تتابعه من المتن إلى الهامش، وبالعكس، من وسط البلد إلى الوايلى وشبرا الخيمة وشبين القناطر، ومن حفظ القرآن، إلى امتحانات اللغة الإنجليزية، وكتب الماركسية.
لعل فؤاد أسير وعيه قبل أى شىء آخر، وعيه بضعفه وتناقضاته، ووعيه بعدم الأمان، ومن هنا جاءت رغبته فى أن يتعود على عمل شىء روتينى كل يوم تقريبا، لأن ذلك يمنحه إحساسا بالأمان والاعتياد والإنجاز.
يتكرر هاجس البحث عن الأمان، والبعد عنه فى نفس الوقت، فيكتب فؤاد:
«رحت أجدّف بقاربى بعيدا عن بر الأمان، بعيدا عن ذاتى البسيطة الساخرة والمتشككة، والمُتعويّة فى الأساس، والفوضوية بأناقة».
ويكتب أيضا:
«أبتعدُ عن الأمان، وأصرخُ فى اللحظة نفسها طالبا النجدة خشية الغرق، أطلبها من كل عابر سبيل، وكل من ادعى الفهم وكل صاحب، وكأنها قد توجد فى أىّ قلب أو أىّ عقل دون قلبى أنا وعقلى أنا».
الشىء الوحيد الذى يعرفه يقينا هو اكتشافه لمعجزة الكلمات، ولقوة الفن، وللخلاص بالكتابة، ولكن هذا التحقق أيضا يراوح مكانه صعودا وهبوطا، ما بين ضرورة أكل العيش بامتهان الترجمة، وضرورة القراءة والكتابة، وتزيد المفارقة بأن يكرس أوقاتا طويلة لترجمة كتب التنمية البشرية، التى تعد قارئها بالتغيير السحرى، وبالإرادة الفردية القادرة على الخلق الجديد، فيما يبدو فؤاد فى واقعه أسيرا لدوائر محكمة ينتقل بينها، بمزيج من إرادة ذاتية، وظروف وجد نفسه جزءا منها.
الأب أيضا (بمفهوميه الأرضى والسماوى) من مفاتيح النص: هناك رغبة عارمة فى استدعاء الأب، واللجوء إليه، والشعور بأهميته، والأم أيضا حاضرة باعتبارها الجذور التى تقاوم العاصفة، وحتى عندما تمرض الأم، وتحتاج إلى رعاية فؤاد، فإن بقاءه معها يشبع حاجته إلى مرفأ وذاكرة.
لعل فيفى هانم كانت كذلك أمّا بمعنى من المعانى، رغم وعى فؤاد بتهافت كتابتها، وبغرابة شخصيتها، وبأن الحاجة تربطه بها، أكثر من أى شىء آخر، ولكن ارتباطه بها كان مرحلة هامة، رسخت فى عقله، وفتحت أمامه أبواب شخصيات مؤثرة.
«كل يوم تقريبا» رواية قلق واغتراب، ورغبة فى معرفة الذات، وحل تناقضاتها، وعندما يواجه فؤاد نفسه، أو تواجهها اشباحه بالنيابة عنه، فإن السرد يجعل العالم كله داخل الذات: الشوارع والجسور والتضاريس داخلية أيضا، وصورة الحياة وتصوراتها تنشأ فى الداخل، وهى التى تحدد المصائر والنهايات.
لا يثق فؤاد فى قدرته على تحمل مسئولية أى كائن، بما فى ذلك تحمل مسئولية نفسه، ولكن حكايته تبدأ بالكلب الصغير الذى تبناه، وتنتهى أيضا بالكلب الصغير، وكأنه لن يتوقف عن المحاولة، مثل سيزيف المثقل بصخرته، والعارف بقدره وقدرته.
سيظل فؤاد أسيرا فى الغالب، ولكنه سيحاول الهروب دوما من سجن الوحدة والضجر واليأس المقيم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved