مشاهدات على الطريق

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 18 مارس 2023 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

هذا الصوت المُحَذِّر لا يخيف كثيرا، ربما يوتر بعض الشىء لكنه ضمن المعالم الصوتية للمدينة. اعتدنا أن تدوى صافرات الإنذار هنا وهناك فى شوارع القاهرة، هذه لسيارات موكب يمر لزائر عظيم أو مسئول مقيم، وهذه لعربات الإطفاء أو ناقلات الإسعاف.. وفى كل الأحوال لا حيلة لنا، فالزحام شديد والناس مضطرون لأن يسيروا ببطء كما لو أنهم فى زحف مقدس.
نريد أن نعمل بمقولة «دعه يعمل دعه يمر» لكننا نقف عاجزين، وبالتالى لا نملك سوى أن نستمع لأصوات الإنذار فى لامبالاة ونتكيف مع وجودها فى الخلفية دون أن ننزعج منها، إذ لا نعرف فعلا كيف نتصرف حيالها، فعلى الأغلب لا مجال لأن نفسح لقائدها الطريق، حتى لو أردنا ذلك حقا. عادة معنى إطلاق «سرينة» شرطة أو أى من العربات سالفة الذكر أن هنالك حالة طارئة تستدعى الوصول سريعا أو أن كارثة على وشك أن تقع، لكننا لا نملك سوى أن نتركها تقع وننتظر المصير المحتوم ونحاول أن نتسلح بالصبر والتفاؤل.
ورغم كثرة صافرات الإنذار إلا أننى لا أميز بينها، فلا أعرف مثلا بمجرد سماعها نوعية المركبة وتخصصها، فى حين يقول البعض إن لها نغمات مختلفة صعودا وهبوطا، على سبيل المثال «سرينة» مركبة الشرطة تكون من درجة «لا ــ رى» فى السلم الموسيقى، والإطفائية من «لا ــ سى»، والإسعاف من «لا ــ فا».
• • •
«سرينة» اليوم كانت من هذه النوعية الأخيرة، ظلت تدوى فى أذنى من دون انقطاع. قائد سيارة الإسعاف ينتحب مقدما على مصير المريض الذى من المفترض إنقاذه. تعود على أن ينظر له الناس شذرا، وبوق سيارته يصرخ فيهم، بينما يسعى هو لأن يختلس مكانا بين المركبات المتكدسة ويتقدم عنهم فى السير. الصوت يكون أعلى داخل الكابينة، حتى إنه يُكتب أحيانا تحذيرا على الأزرار أنه ينبغى على السائق والمُسعف وضع خوذة أو سماعات لكى تحمى أذنيهم عند إطلاق الصافرة. قبل استخدام «السرينة» الحديثة كانت العربات القديمة مزودة بأجراس لتنبيه المارة إلى أحقيتها فى السير، وذلك قبل أن يخترع العالم الاسكتلندى جون روبيسون صافرات الإنذار فى نهاية القرن الثامن عشر، وحين تم تطويرها فى العام 1891 كى تصرخ وتستجير من تحت الماء أُطلق عليها «سرينة» نسبة إلى كلمة (sirène) بالفرنسية، وهى عروس البحور أو الحورية، فى حين هى لا تشبه من قريب أو من بعيد هذا الكائن الخرافى الجميل، بل على العكس تجعلنا نعيش باستمرار فى أجواء ضاغطة.
فى الأعراف الدولية، من المفترض أن تستغرق رحلة المُسِعف 11 دقيقة و56 ثانية على الأكثر مع استخدام «السرينة»، إلا أنه لا يتوقع قط الوصول إلى هدفه فى مثل هذا الوقت القياسى، فالناس تتدافع فى الشوارع كالمجانين استعدادا لاستقبال رمضان، وكأننا بصدد نهاية العالم. الزيارات الرسمية تتسارع وتيرتها، وبالتالى تكثر المواكب وساعات الانتظار، والأسواق مكتظة رغم ارتفاع الأسعار.
قائدو السيارات الأخرى عادة يتريثون فى البداية، ربما يصمت بعد قليل، يحاولون قراءة الصوت ومدى جدية من يطلقه، فإن وجدوه مطمئنا غير خائف لابد أن ينسحبوا وبأسرع وقت، إذا سنحت الفرصة. أما إذا لم يكن ذلك متاحا، فلن يتبقى لهم سوى مراقبة الطريق: مضخة البنزين فى منتصف الشارع وقد بُينت عليها الأسعار الجديدة، المجنونة الفقيرة التى لا تتعب من الذهاب والمجىء وهى متدثرة بكم هائل من الثياب، غزو قائدى العجلات البخارية وهم يخترقون الصفوف، حين ينقسمون إلى مجموعتين أو أكثر، الغضب المفاجئ الذى يعترى أحد السائقين بعد أن نفذ صبره... حركات كثيرة قلقة لمن يحاولون العبور من خلال فجوة... ثم رائحة قهوة ذكية تنبعث من إحدى محلات البن فتنعش الجو مع تقدم السير قليلا. يبتسم ويحاول التفاؤل بأن هناك أملا، فيأتيه عامل النظافة بابتسامة عريضة تُظهر كل أسنانه، مرددا «كل سنة وأنت طيب»، رافعا يده بالتحية قبل أن يكنس كنستين محدثا بعض الغبار إثباتا لصدق نواياه. بعدها تتلاحق دعوات بالستر والصحة على لسان شابة يافعة تبيع عقود فل بلا رائحة، أضيف إليها معطر فواح بشع. تضحك عند ملاحظة جملة مكتوبة بخط اليد على ظهر ميكروباص «العين صابتنى ورب العرش نجانى».
• • •
ربما نجا السائق من كل سوء، لكن الأشجار لم تنجُ. غصة رهيبة أمسكت بحلقى مع رؤية شجرة مقتلعة من جذورها وملقاة على الرصيف مع أنقاض الكورنيش القديم الذى أخذوا فى هدمه. منظر الجذور العارية للأشجار الأخرى التى لاتزال واقفة فى مكانها يثير الشفقة. الجميزة الضخمة تستقبل أرواح الموتى، كما تقول الأسطورة، يأتون إليها فى هيئة أسراب من العصافير تقف على أغصانها وتنطلق يمينا وشمالا. العصافير تطير، أما نحن فلا نبارح مكاننا. صداع فظيع يلازم الرأس، وأصوات صفارات الإنذار تطاردنا من كل حدب وصوب، بعضها يبعد وبعضها يقترب، ونحن لا نعلم هل سيفتح ذلك الطريق أم يغلقه؟ هل سيلازمنا النحس، فتدور بنا عجلة الحياة عكس ما نطمح إليه؟ الصوت المُحذِّر لا يخيف كثيرا، لكنه يوتر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved