أزمة «المجتمعات الطرفية» المصرية

نبيل مرقس
نبيل مرقس

آخر تحديث: الجمعة 18 أبريل 2014 - 7:50 ص بتوقيت القاهرة

تطرح علينا أحداث العنف المجتمعى المفاجئ فى واحدة من أرقى مناطقنا الثقافية عراقة وحضارة (محافظة أسوان)، حيث يجتمع أحد أهم منجزات الفترة الناصرية (مشروع السد العالى بكل دلالاته السياسية والاقتصادية والتنموية) مع واحدة من أهم أخطائها (الاستمرار فى التهجير القسرى للمجتمعات النوبية الذى بدأ منذ بناء خزان أسوان فى العصر الملكى دون حساب دقيق للتكلفة الثقافية والإنسانية الفادحة لهذا القرار التاريخى ودون تدخل مسئول ــ حتى هذه اللحظة ــ يعمل على التخفيف من فداحة هذه التكلفة) أزمة عميقة ترتبط بمجتمعاتنا الطرفية المصرية وعلاقتها بالدولة الوطنية المركزية فى لحظة انتقال متعثر إلى الحكم الديمقراطى.

«المجتمعات الطرفية» المصرية هى مجتمعات ذات طبيعة ثقافية وإثنية خاصة تقع على حواف الدولة المصرية وتمثل تاريخيا منافذ إستراتيجية للتواصل مع الدول المحيطة من جهة وللدخول إلى عمق الأراضى المصرية من جهة أخرى، وبهذا الموقع الإستراتيجى فهى قابلة لأن تصبح مصدّا ضد محاولات الاختراق الخارجى من قبل أية عناصر أجنبية شريطة إتاحة الفرصة الحقيقية لأبنائها للمشاركة فى بناء قوتها الذاتية من خلال إطلاق طاقاتها الكامنة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بحيث تتحول من صورة «المجتمعات الطرفية» المهمّشة والمأزومة التى قد تمثل خطرا على الأمن القومى المصرى إلى «نموذج مصرى» للتنمية الذاتية والمشتركة مع دول الجوار، واللامركزية السياسية والإدارية والمالية يعمل بالتنسيق مع السلطة الوطنية المركزية على درء كل الأخطار المحدقة بالأمن القومى المصرى شمالا وجنوبا، شرقا وغربا.

•••

وتتمثل أزمة «المجتمعات الطرفية» المصرية (وسوف نركز فى هذا المقال على سيناء، والنوبة، وسيوة كنماذج لهذه المجتمعات الطرفية) فيما يلى:

• سيادة الفكر الأمنى السلطوى لأجهزة الإدارة المحلية وعدم الاهتمام الكافى بعناصر الفكر التنموى الحقوقى والانسانى كمدخل للاقتراب من هذه المجتمعات الطرفية.

• غياب المخطط الذى يأخذ فى اعتباره الإدراك المتكامل للطبيعة الاجتماعية والثقافية والإنسانية الخاصة لهذه المجتمعات لدى المسئولين عن إدارتها وتنميتها، وانعدام المعرفة التاريخية بالخصوصية الثقافية والإنسانية لهذه المجتمعات التى تستحق معاملة خاصة كقطعة حيّة من التراث الثقافى العالمى.

• إسهام المسئولين فى أجهزة الدولة المختلفة من خلال عقلية بيروقراطية جامدة وضيقة الأفق فى تدمير النسيج الإنسانى والحضارى لهذه المجتمعات (مثل تدمير التراث المعمارى للنوبة القديمة بعد إنشاء خزان أسوان ثم السد العالى، التفريط فى التراث الحرفى والمعمارى لسيوة وتركه نهبا لاستغلال الوسطاء الأجانب وأتباعهم من المصريين، تجاهل قيمة التراث الحرفى والمعمارى لسيناء وإهمال تنميته لصالح المجتمع السيناوى المحلى).

• غياب قدرة الدولة الوطنية المركزية على ربط هذه المجتمعات اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بالكيان القومى المصرى وذلك من خلال سياسات تنموية متكاملة واسعة الأفق وممتدة زمنيا، واستمرار الضغط الأمنى والبيروقراطى على وعى هذه المجتمعات بهويتها الثقافية والإثنية بما يسهم فى دفعها فى اتجاه الانفصال الثقافى والنفسى عن الوعاء الثقافى والوطنى العام (نرى ذلك فى النزعات النوبية الانفصالية وتقنين لغاتها بالحروف اللاتينية بتمويل أجنبى، وفى حركة إحياء اللغة الأمازيغية فى سيوة، وظهور عناصر من السلفية الجهادية فى شمال سيناء تتحدى سلطة الدولة الوطنية المركزية).

• غياب المخطط التنموى الشامل لكل مجتمع طرفى والذى يقوم على المشاركة المجتمعية لقيادات ونشطاء المجتمع المحلى، وعلى إحياء التراث الحرفى والتقنى والمعمارى لهذه المجتمعات، وعلى استخدام البحث العلمى الوطنى فى إيجاد نماذج متعددة للتنمية الذاتية تحافظ على الخصوصية الثقافية والحضارية لهذه المجتمعات من خلال إعادة اكتشاف مواردها الطبيعية بوسائل علمية حديثة ومزاوجة الهوية والقيم الثقافية المحلية بأحدث منتجات العلم والتكنولوجيا.

• غياب نظام مكتمل للحكم المحلى يتبنى مفاهيم الديمقراطية واللامركزية السياسية والإدارية والمالية بما يسمح لهذه المجتمعات الطرفية بانتخاب المحافظين ومجالسها الرقابية بسلطات تحقيقية وبأن تدير مواردها الطبيعية وشئون حياتها اليومية فى إطار منظم يستجيب لمطالبها الاقتصادية والاجتماعية والخدمية الملحة، ويسمح لها بالتعبير عن قيمها الإنسانية الخاصة وهويتها الحضارية المتفردة، فى ارتباط وثيق بالسياسات الوطنية العامة والتوجهات الإستراتيجية للدولة الوطنية المركزية بما يدعّم من مقومات الأمن القومى المصرى ويؤكّد على سيادة الدولة المصرية وحضورها الإيجابى فى مجتمعاتها الطرفية التى تتعرض حالياّ لسيل من عمليات التهريب للسلع والسلاح والبشر وكل الممنوعات (أضف إلى ذلك أحداث العنف المسلح التى تتعرض لها سيناء حاليا).

•••

أتمنى ويتمنى معى الكثيرون أن تكون الزيارة الأخيرة للسيد رئيس مجلس الوزراء والسيد وزير الداخلية والسيد وزير التنمية المحلية والإدارية، انطلاقا لفهم جديد لاقتراب «فقه الحكام» من واقع وصياغات وتعقيدات «فقه المحكومين» فى تعاون خلاق بين الدولة الوطنية المركزية ومؤسسات المجتمع المدنى حتى تخرج بلادنا العزيزة من هذه اللحظة الانتقالية العابرة لتواصل من جديد إسهامها المبدع فى صنع الحضارة وصياغة الضمير على المستوى الإنسانى العالمى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved