حالة من الاحتقان

امال قرامى
امال قرامى

آخر تحديث: الإثنين 18 أبريل 2016 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

تتواصل الاحتجاجات فى تونس وتتواصل معها أحداث العنف والمواجهة مع الجهاز الأمنى.. هذه المرة تأزم الوضع فى جزيرة قرقنة من ولاية صفاقس (وسط البلاد) التى رفض أهلها أن يكونوا فى خانة المنسين والمهمشين.. وكلما تعقد الوضع ارتفعت حصيلة الخسائر التى تتكبدها الدولة باعتبار أن غلق المؤسسات والاعتداء على الممتلكات العامة وسيارات الشرطة صار ممارسة راسخة فى تونس.

ولئن ارتفعت الأصوات المنددة بطريقة معالجة الحكومة لملف التنمية والتهميش فإن طريقة التعبير عن المواقف سرعان ما حادت عن المسار المنتظر لتتحول إلى مواجهات عنيفة، وهو مؤشر على ارتفاع منسوب العنف فى صفوف المحتجين الذين ما عادوا يتحملون صعوبات الحياة.

وبالتأمل فى مختلف دلالات هذه التحركات الشعبية نتبين أن الأوضاع التى تمر بها البلاد تثبت سقوط السردية القديمة التى كانت تعتبر أن أسباب الثورة التونسية تعود فى مجملها، إلى الافتقار إلى مناخ ديمقراطى تمنح فيه الحريات للجميع وتكرس فيه مجموعة من القيم كالمساواة الاجتماعية والكرامة وغيرهما. تفقد هذه الرواية إذن جاذبيتها لتحل محلها رواية أخرى مفادها أن الثورة التونسية كانت منذ البدء «ثورة الجياع». ومهما اختلف التونسيون فى قراءة أسباب الثورة فإن الثابت اليوم هو رفض أغلبهم الإقرار بالصعوبات الراهنة وعدم اعترافهم بأن الحقوق التى يطالبون بها ما عادت تلبيتها ممكنة.

***
لسنا إزاء مسار قائم على تجاوز الأزمة وإجراء الحداد والقبول بإكراهات بتعقد الواقع ثم الانتقال إلى مرحلة إعادة البناء بالتعويل على الذات.. بل نحن إزاء رفض للواقع المعقد والصعب وإبداء رغبة ملحة فى الخروج من الأزمة بأسرع وقت ممكن حتى وإن أدى ذلك إلى استعمال العنف كوسيلة للضغط وتجاوز القانون وإلحاق الأذى بالآخرين وارتهان عدد من المؤسسات.

لسنا إزاء حكومة قوية قادرة على معالجة الأوضاع المتأزمة بسرعة وفاعلية وحكمة.. إننا إزاء حكومة أدوات الفهم التقليدية و«الأيادى المرتعشة» التى تتفاعل مع الأحداث بعديا ودون خطة محكمة وبالأساليب التى ما عادت تعطى أكلها ولذلك فإن الحكومة تصدر الأوامر وسرعان ما تتراجع عنها مما يؤكد غياب الرؤية والمصداقية.

ولئن تصالح التونسيون مع المؤسسة الأمنية بعد حلول الإرهاب فى ديارهم فإن الأحداث الأخيرة كشفت عن رسوخ التمثلات القديمة التى يحملها التونسى عن الأمنيين. فكلما حصلت الاحتجاجات عقبتها مواجهات مع الأمنيين باعتبارهم «الأعداء» الذين يمثلون النظام وفى الآن نفسه يحولون دون تنفيذ الأهالى لخطط الضغط. ولعل حضور الأمنيين بأعداد كبرى جعل سكان الجزيرة ينعتون المعالجة الأمنية بأنها «احتلال» للجزيرة وهنا يبدو الصراع حول المجال: الحضور/الغياب.

إن ما يسترعى الاهتمام فى هذه الاحتجاجات مشاركة جميع الناس على اختلاف جنسهم وأعمارهم وانتماءاتهم المختلفة مما يقيم الدليل على أن حالة الشعور بالإحباط لا تخص الشبان العاطلين عن العمل وحدهم إنما هى حالة عامة، وهو أمر يجعل الاحتجاجات مندرجة ضمن التحركات الاجتماعية فى جميع البلاد التى أطرتها النقابات.

قد تكون دوافع هذه التحركات الاحتجاجية مرتبطة ببعض الأسباب الظرفية ولكنها فى تقديرنا، ذات وشائج بتراكمات عقود من الزمن صيغت فيها سياسات تفضيل جهات على أخرى وتقسيم الامتيازات على الأهل والخلان واستبعاد الكادحين من الانتفاع بخيرات البلاد.

أما عجز الحكومات الحالية عن إدارة الأزمات فإنه مخبر عن عدم جاهزية من يحكمون لمواجهة هذه المآزق، وقلة حيلة السياسيين على إقامة جسور التفاعل والحوار مع المواطنين فضلا عن عسر تفكيك الظواهر الاجتماعية وصعوبة توحيد صف «الائتلاف الحكومى» وتكوين فريق عمل قادر على إنتاج الأفكار وصياغة الاستراتيجيات للخروج من حالة الاحتقان. وطالما أن الأحزاب المشكلة «للائتلاف الحكومى» لم تأخذ زمام المبادرة ولم تعالج خلافاتها وتغير رؤيتها لإدارة المرحلة فإن تأزم الأوضاع مستمر.


أستاذة بالجامعة التونسية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved