الجسر.. القصة من بدايتها

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: الإثنين 18 أبريل 2016 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

سارع الكثيرون بوضع الجسر بين مصر والسعودية فى خانة المؤامرة الكبرى وتباروا فى اكتشاف الأضرار التى ستلحق بمصر من جراء هذا المشروع وأوضحوا كيف اضطرت مصر للرضوخ لضغوط السعودية فى هذا الشأن إنقاذا لصفقات المعونات والقروش الميسرة التى تتعدى الـ60 مليار ريال.

ويؤسفنى أن أخيب ظنون عشاق التآمر هذه المرة، لأن الجسر هو فى الأساس ومنذ البدايات الأولى هو اقتراح مصرى والضغوط ــ إن كانت هناك ضغوط ــ هى من الجانب المصرى لحث السعودية على القبول والتردد كان من جانب السعودية.
وإليكم القصة باختصار.

بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، تم تعيينى سفيرا بالرياض التى وصلت إليها فى نهاية ديسمبر عام 1987، وكان من أوائل ما سعيت إليه هو العمل على انعقاد اللجنة المصرية السعودية المشتركة، التى توقفت طوال فترة انقطاع العلاقات أى قرابة التسع سنوات.. وفى إطار الإعداد لهذا الاجتماع الهام.. أعددت خطة من قسمين: الأول يتعلق بإزالة «الكلاكيع»، التى تراكمت فى فترة قطع العلاقات، وعلى رأسها:

ــ وضع الهيئة العربية للتصنيع التى قام السادات باتخاذ إجراءات غاضبة قضت على هذه الهيئة، من بينها تنحية الأمير سلطان بن عبدالعزيز من رئاسة الهيئة، وأصبحت الهيئة ميدانا للعراك بعدما كانت ميدانا للتعاون، والأمر المهم الثانى كان يتعلق بهيئة الخليج للتنمية فى مصر، والتى لاقت أيضا نفس المصير، وقد كان الهدف من إدراج هذه الموضوعات هو تصفية المشكلات المتعلقة بالماضى لإفساح الطريق أمام استعادة التعاون من خلال مشروعات جديدة واعدة.

***
وأثناء الإعداد والبحث عن الأفكار لمشروعات المستقبل، جاءنى الصديق الوزير المفوض التجارى فاروق مخلوف الذى كان يعمل مستشارا لمدير البنك الإسلامى للتنمية بدراسة مبسطة عن فكرة إقامة جسر يربط بين مصر والسعودية على غرار الجسر الذى ربط بين السعودية والبحرين.

وقد تحمست لهذا الاقتراح الذى لن يربط بين مصر والسعودية فقط، ولكنه يعيد الارتباط والتواصل البرى بين المشرق العربى والمغرب العربى وبين آسيا وأفريقيا، وهو الاتصال الذى قطع بقيام دولة إسرائيل، وقد تلقيت برقية شكر من الدكتور عصمت عبدالمجيد وزير الخارجية أشار فيها إلى أن مجلس الوزراء عقد جلسة خاصة لمناقشة اقتراحاتى ومن بينها اقتراح الجسر الذى تحمس له المهندس سليمان متولى وزير المواصلات، وقام يشرح على الخريطة الأماكن، التى يمكن أن يقام فيها الجسر والبدائل المقترحة.

وهكذا تم إدراج الموضوع على جدول أعمال اللجنة المشتركة فى اجتماعها فى أوائل عام 1988 بناء على اقتراح من مصر، وقد وافقت السعودية على ذلك من حيث المبدأ.

وكان هناك بديلان لمكان إقامة الجسر:

الأول: إقامة الجسر على أضيق اتساع لخليج العقبة (تقريبا بين نبق على الساحل المصرى والنقطة المقابلة على الساحل السعودى)، وهى مسافة تبلغ 10 كيلو مترات.. ولكن الصعوبة أن المسافة ستكون كلها جسرا معلقا أى لا توجد جزر أو صخور كبرى يمكن الارتكاز عليها فى الطريق.

والثانى: فى منطقة رأس محمد التى يفصلها على الساحل السعودى 23.5 كيلو متر، والميزة أن المنطقة الصالحة للملاحة التى يتطلب إنشاء جسر معلق فوقها لا تتجاوز ثلاثة كيلو مترات، وهى المنطقة التى تقع بين الساحل المصرى وجزيرة تيران المصرية والوحيدة الصالحة للملاحة والباقى تغطية جزيرتى تيران المصرية وصنافير السعودية وكثير من الصخور على امتداد المسافة. وهى منطقة لا تصلح للملاحة ويمكن ردمها وإنشاء طريق فوقها Cause Way، كما يمكن الاستفادة من الجزر كمكان لإقامة المناطق الجمركية والحدود بين البلدين.

وقد اتخذت اللجنة قرارا بالموافقة من حيث المبدأ على المشروع مع طلب إجراء المزيد من الدراسات.

***
بدأت أخبار الجسر تنتشر، وقد جاءنى نائب رئيس شركة بكتل الأمريكية، وهى من أكبر شركات الأعمال والمقاولات فى العالم وعرض علينا إقامة الجسر BOT أى بدون أجر مقابل حق الانتفاع لمدة عشر سنوات بشرط السماح لهم بمد أنابيب بترول تحت الجسر لنقل البترول السعودى ــ عبر مصر ــ إلى أوروبا، وبالطبع أخذ رسوم على عبور الأشخاص والسلع والبترول.

ومن ناحية أخرى بدأ الحديث فى إسرائيل بأنها ستطالب السعودية ــ فى حالة إقامة الجسر ــ بقبول الالتزامات التى التزمت بها مصر تجاه حرية الملاحة فى مضيق تيران.. هنا تراجعت السعودية خشية الانجرار فى علاقات مع إسرائيل وحتى لا يُقال إن مصر التى نجحت فى كسر طوق المقاطعة وقطع العلاقات تعمل الآن على جر واحدة من أكبر الدول العربية والإسلامية لإنشاء علاقات مع إسرائيل.

والآن.. بعد أكثر من ربع قرن جرت فيها مياه كثيرة تحت الجسر، وأصبح لإسرائيل مكاتب فى بعض دول الخليج وتقدمت السعودية بمبادرتها الشهيرة للصلح مع إسرائيل وأعادت السعودية ومعظم الدول العربية ترتيب الأخطار، التى تواجه أمنها القومى وتراجع الخطر الإسرائيلى فى هذه المراجعة وحل محله الخطر الإيرانى.. بل أصبح بين إسرائيل والدول العربية عدوا مشتركا هو الإرهاب وخطر التطرف الإسلامى، وتراجعت القضية الفلسطينية كثيرا، وأصبحت مشكلة اللاجئين السوريين تفوق فى حجمها وفى مأساويتها مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.. كما أن غزو صدام حسين لدولة الكويت جعل الخليجيين، يرون أن الخطر الأكبر يأتيهم من إخوانهم العرب وليس من إسرائيل.

وأدت هذه العوامل إلى تغيير جذرى فى سياسات السعودية مما سهل موافقتها على إقامة الجسر واستعدادها لإعطاء إسرائيل الضمانات المطلوبة.

***
وأخيرا.. أود أن أقول إن السعودية لا تريد من العالم إلا أن يتركها تتمتع بما أفاء الله عليها من نعم ظاهرة، فهى لا تسعى وراء دول العالم ولكن العالم هو الذى يسعى ورائها، وهى ليست من أنصار فتح المنافذ وتسهيل الانتقال والسفر إليها، ونذكر فى هذا الصدد أن السعوديين معفيون من الحصول على تأشيرة لدخول مصر، بينما المصريون مطالبون بالحصول على تأشيرة، وذلك فى ترتيب غير مسبوق وكسر لقاعدة المعاملة بالمثل المعمول بها فى المجال الدولى.

لذلك فموافقة السعودية على إقامة الجسر هو تنازل قدمته لمصر وليس العكس.

وأدعو الله أن يتمم بناء هذا الجسر وأن نكف عن تريد كل ما نسمع.

مساعد وزير الخارجية الأسبق وسفير مصر الأسبق فى السعودية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved