المؤتمر

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 18 أبريل 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

كان بين رفاق المراهقة من استحق الحسد. مراهقته جريئة وجسورة ومراهقتى خجولة وناعمة. قضيت سنوات الجامعة أراقب بالإعجاب جرأة الطلاب الذين يجادلون الأساتذة فى قاعة المحاضرات بينما كان تفضيلى أن أجادلهم فى مكاتبهم ومنازلهم، وإن تعذر اللقاء فى المكتب أو المنزل فليكن فى بار نادى الصيد. بدأت لقاءات النادى بنصيحة من أستاذ بجلته طويلا، بجلته حتى بعد أن اختاروه وزيرا. جاءتنى النصيحة بربتة على كتفى وابتسامة سبقت كلماته. فهمت ليلتها ما يفيد بضرورة أن أتفادى الجلوس على تلك المقاعد العالية المنصوبة حول البار لأنها، حسب قوله، تسىء إلى السمعة وتولد شبهات لا داعى لها. دعانى إلى مائدته.
***
جلسنا اثنين، أستاذ وطالب، زدنا خلال شهرين فأصبحنا خمسة، أستاذان وثلاثة طلاب. كان لأغلبهم فيما بعد شأن عظيم. هناك فى هذا البار وحول هذه المائدة خرج إلى الحياة هذا الشاب الصغير سنا واليافع قامة والمتعطش إلى معارف وثقافات وتجارب. أجاد الاستفادة من هذه اللقاءات المحدودة العدد وفضلها على المؤتمرات الكبيرة والاجتماعات الواسعة. كثيرا ما تساءلت عما إذا كان لهذا النفور من المؤتمرات والاجتماعات الغفيرة العدد علاقة باختيارى العمل فى مجال الدبلوماسية الثنائية مفضلا إياه على مجال الدبلوماسية متعددة الأطراف أى دبلوماسية المؤسسات والمؤتمرات الدولية، أو جاء نتيجة اكتشاف المسئولين عن مستقبلنا فى الدبلوماسية أننى لن أكون نافعا فى هذه الأخيرة.
***
بعد عامين أو أكثر قليلا حضرت أثناءها فى الهند مؤتمرين أكاديميين وفى الصين مؤتمرا للحزب الشيوعى الصينى وفى ايطاليا مؤتمرات لأحزاب عديدة، كلفتنى رئاستى فى روما تمثيل الجمهورية العربية المتحدة فى المؤتمر السنوى العام الذى تعقده منظمة الزراعة والأغذية، إحدى المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة. لن أنكر انبهارى. انبهرت باتساع القاعة وانضباط العمل وبالمتحدثين بدون رهبة. أذكر أننى طلبت الكلمة مرتين فى اليومين الثانى والثالث. شجعنى أن فى هذه القاعة الشاسعة لا أحد يرانى فالمقاعد متراصة كقاعة محاضرات ومقاعد الرئاسة المطلة على القاعة بعيدة عنى وبالكاد يستطيع الجالسون عليها التعرف على قسمات وجهى. شجعنى أيضا أننى جئت للمؤتمر مزودا بنصين لمداخلتين سياسيتين إن دعت الحاجة لهما. لم اتلعثم ولم أخطئ فى النطق بالكلمات. لم أتلق تهنئة من أحد فى القاعة ولا أظن أن أحدا علق على المداخلتين أو أشار لهما.
***
كان يمكن أن تنتهى علاقتى بهذا المؤتمر عند هذا الحد وأنسى تماما التجربة من أساسها، خاصة وأن الانبهار بالقاعة والانضباط تحول بعد اليوم الثانى إلى أمر عادى. وكما توقعت بدأ السأم والضجر يحلان محل الفضول والانبهار. تصرفت فى اليوم الرابع وما بعده كما كان يجب أن أفعل منذ البداية، وهو أن أقضى وقتا أقل فى قاعة المؤتمر ووقتا أطول فى صالات الطعام والشراب والتعارف والدردشة. بالفعل اكتشفت أن للمؤتمرات طعما آخر وحياة أخرى وأن بين المشاركين والمساعدين والمترجمين أشخاصا متنوعى الأمزجة والثقافة. هناك فى إحدى تلك الصالات غير الرسمية حدث ما جعلنى أخصص لهذه التجربة مكانة خاصة فى سجل ذكرياتى. حدث أن قابلت من حفر حفرا فى الذاكرة رواية تستحق أن تروى، ولن تروى، أو على الأرجح لن أكون أنا راويها.

***
لم أعرف وقتذاك أن يوما سيأتى أجد نفسى فيه على رأس جهاز متخصص فى تنظيم وعقد مؤتمرات علمية وندوات وحلقات نقاش. قابلت فى بداية المرحلة من دربنى على القاء خلاصة دراسة قمت بها دون الاستعانة بالدراسة نفسها. تعلمت أهمية أن يلقى المحاضر محاضرته وعيناه تخاطب الحاضرين. قيل لى أثناء تدريبى، اختر من بين الجالسين فى الصفوف الأمامية شخصا سوف تركز عليه خلال القائك محاضرتك. اختره شخصا لا يتحرك كثيرا ولا يتكلم مع جيرانه. افترض أن الجالسين لا يعرفون الكثير عن الموضوع الذى تتحدث فيه فاشرح. افترض أيضا أن موضوعك ليس خفيفا على كل الحاضرين فاحكِ روايات أو الق عليهم بظرائف فى اللغة أو من الحياة فتجذبهم إليك. مطلوب منى أيضا أن أكون حاضر البديهة خفيف الظل منتبها دائما إلى عدم تجاوز الوقت ومتيقنا من أن الملل لم يتسرب إلى أعضاء المؤتمر أو جمهور المحاضرة. قيل لى، تأكد من أنك لم تقل كل ما عندك فهناك من يتربص بك ليلقى بالسؤال القنبلة حين يأتى الوقت المخصص للأسئلة والتعليقات. اعمل على أن تكون الكلمة الأخيرة فى الجلسة هى كلمتك وليست كلمة محاور أو مداخل.
***
ليس كل المعلمين محاضرين جيدين ولكن كل المحاضرين الجيدين معلمون جيدون. وليس كل من امتلك ناصية القلم قادرًا على أن يكون محاضرا جيدا، وليس كل من قرض الشعر أجاد إلقاءه، وليس كل من أحب الكلام واتسعت معارفه متحدثًا جذابًا.
كذلك الحضور، فليس كل مواظب على حضور المؤتمرات مستمعًا أمينًا. بعض الحضور تدفعه شهوة. تابعت على امتداد ثلاثين عام أشخاصا يدمنون حضور المؤتمرات، لا يهم الموضوع ولا نوعية المحاضرين والمشاركين، المهم بوفيه ما بين الجلسات. هناك أيضا شهوة الشهرة. بعض آخر من الحضور يتعمد أن يدخل القاعة متأخرا تصحبه جلبة ليراه الناس ويتوقف من أجله المتحدث عن الكلام. شاركت قبل يومين فى الاحتفال بمناسبة دينية. بدأت المراسم والمقاعد المخصصة لكبار المسئولين خالية. توافدوا واحدا بعد الآخر خلال الترانيم والصلاة. كل منهم لا يجلس على مقعده قبل أن يتأكد مرافقوه العديدون من أن تحت مقعده خال من شيء مشبوه، وقبل أن يمر على من سبقه فى الحضور من زملاء الشهرة فيحييهم واحدا واحدا بالمصافحة ثم الأحضان والقبلات. أستدير، عند دخول كل واحد من هؤلاء المتخلفين عن موعد الحضور، لأسأل جارى عن هوية الضيف. يعود جارى العارف لكل الناس ليهمس بدوره أنه لا يعرفه، ولكن يبدو له أنه وزير. المناسبة مجيدة ومثيرة للأمل والرجاء وبعض الحضور مثير لليأس والاحباط.
***
بين الشهوات شهوة السفر. عشت طفولتى ومراهقتى أعرف أن السفر عادة مذمومة. كان المصريون على وجه العموم يخشون السفر. تغيروا. كثيرون أبلوا فى المؤتمرات الخارجية بلاء حسنا وكثيرون أساءوا إلى أنفسهم ووطنهم بشهواتهم الملتهبة دائما. رأيت مشاركين يتسببون فى تأجيل جلسات أو تعطيل افتتاح مؤتمر لإصرارهم على عدم القاء محاضراتهم أو مداخلاتهم قبل أن يستلموا مكافآتهم نقدا. سمعت عن مشاركين من الكتاب المعروفة اسماؤهم ينتهزون فرصة وجودهم فى مؤتمرات ليكتبوا جميع مقالاتهم الأسبوعية دفعة واحدة. أضف إلى ما سبق شهوة الفيسبوك، كثيرون أعرفهم لا يطيقون فراق أجهزة تواصلهم الالكترونى حتى وهم يترأسون الجلسات، بعضهم لا يتوقف عن تبادل الرسائل مع بعضهم البعض داخل المؤتمر أو لإدارة أعمالهم فى الخارج. آخرون لا يحلو لهم النوم إلا فى قاعة المؤتمر. هؤلاء أجد لهم عذرا. لقد دأبت الفنادق ودور المؤتمرات مؤخرا على الاستغناء عن التهوية الطبيعية بتهوية داخلية لا تفى بالغرض. النتيجة نقص فى الأكسجين يتسبب فى الكسل وضعف القدرة على التركيز بالإضافة إلى احتمال الإصابة بأمراض تصيب عادة نزلاء المستشفيات وركاب البواخر النيلية والطائرات، أمراض متنوعة ليس أقلها شأنا علل التنفس والحساسية الشديدة.
***
يعيبون علينا حنيننا إلى الماضى، ونتمنى لهم ماضيا يحنون إليه.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved