أبو المجد والعقل والضمير

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 18 أبريل 2019 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

فى أيام تشبه أيامنا هذه فى اضطرام الفتنة فى البلاد، وعلو شأن الإمعات فى كل جوانب الحياة، خاصة ما يتعلق بالشأن العام، قال أبو العلاء المعرى:
فوا عجبا كم يدعى الفضل ناقص...
ووأسفا كم يظهر النقص فاضل
فقال السها للشمس أنت ضئيلة...
وقال الدجى للصبح لونك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة...
ويا نفس جدى إن دهرك هازل
وها هو ذا الموت قد زار أستاذنا الدكتور أحمد كمال أبوالمجد، بعد سنوات من الحجب ــ القسرى غالبا، والطوعى أحيانا ــ عن مخاطبة الرأى العام، بل عن المشاركة الفكرية الرفيعة، بسبب حالة الاستقطاب الحادة، التى يستثمرها المتطرفون والاحتكاريون، والتابعون لهؤلاء وأولئك، كل لأهدافه، التى يستلزم تحقيقها تغييب الرؤى الحكيمة، والعقول السديدة، والضمائر الحية.

من معاملات الارتباط بين الدكتور كمال أبو المجد وأمثاله من المفكرين وأصحاب الرأى والمواقف فى بلدنا وبين الشأن العام أنهم يظهرون أو تظهر أدوارهم فى الفترات التى كان يسود فيها الأمل، وتنعقد النيات على الإصلاح الجاد، وإزالة السدود والقيود المانعة أو المكبلة لطاقات وإبداعات المجتمع ككل، ونخبته المثقفة على وجه الخصوص، فكانت أول مرة أعرف فيها الرجل عن قرب ندوة فى المعهد الاشتراكى بحلوان علم 1971، بعد أحداث شهر مايو من ذلك العام، التى أطاح فيها الرئيس الأسبق المرحوم أنور السادات بما سمى وقتها بمراكز القوى، بالتحالف مع أجنحة معتدلة من الوطنيين والقوميين واليسار والإسلاميين، وبوعود جازمة بإطلاق الحريات، وإنهاء الدولة البوليسية، وتصفية المعتقلات، وإعادة بناء النظام السياسى على أسس الجدارة بعيدا عن الشللية، والمشاركة دون إقصاء، والتواصل المستمر مع القواعد الشعبية لتحسين أداء نظام الحزب الواحد.

فى إطار عملية إعادة البناء هذه تولى الدكتور كمال أبو المجد أمانة الشباب فى الاتحاد الاشتراكى العربى، وكان هو الذى نظم ندوات لشباب الجامعات فى معسكر حلوان فى ذلك العام تطبيقا لهذه التوجهات الجديدة، وكان هو بالطبع ممن يتحدثون فيها، كما تحدث فيها أيضا الأساتذة لطفى الخولى، ومحمد الخفيف وشريف حتاتة من اليساريين، والدكتور أسامة الباز من المسئولين، والدكتور عبدالعزيز كامل وأبوالمجد نفسه ــ كما قلنا ــ وغيرهما من القادمين من خلفية ما يسمى بإلإسلام السياسى، وقد كان يشاركه على المنصة يوم أن تحدث إلينا الأستاذ لطفى الخولى فى دلالة رمزية على أن القاسم الوطنى المشترك بين الاتجاهات السياسية المختلفة أوسع وأقوى من التباينات، وأن البناء الجديد سيقوم على أكتاف الجميع، ورغم الفصاحة المعروفة عن الأستاذ لطفى ونبرته الخطابية الاستعراضية المحببة فقد حازت النبرة الهادئة، والمنطق الرزين، والخطاب المعتدل للدكتور أبوالمجد على إعجاب الحاضرين بأكثر من إعجابهم بزميله على المنصة.

فيما بعد تولى أبوالمجد منصب وزير الشباب، لكنه لم يلبث طويلا فيه، ولم تكن لدى فرصة للاحتكاك به، ثم ما لبث أن تولى منصب وزير الإعلام حين كنت أبدأ عملى الصحفى الإذاعى، وكان ذلك فى حكومة الدكتور عبدالعزيز حجازى، أى فى مقتبل عصر الانفتاح الاقتصادى، الذى بشرنا بأعظم وعود التنمية والرخاء، وكذلك فى بداية عصر الانفتاح الإعلامى بإلغاء الرقابة الرسمية على الصحف، وكذلك وسط حقبة استعادة الثقة والأمل بعد نصر أكتوبر، ومن موقعى بين المعلقين السياسيين فى الإذاعة المصرية كنت شاهد عيان على خططه وجهوده لتطوير الأداء الإعلامى المصرى، من الخطابيات الإنشائية إلى بث المعلومات الحقيقية، والتحليلات المستندة إلى هذه المعلومات، ومن هذه الجهود إنشاء مكتب الخبراء لتزويد مختلف الخدمات الإذاعية والتليفزيونية بهذه المعلومات والتحليلات، وما زلت إلى الآن أذكر عبارته المشخصة لحالة التعليقات السياسية وقتها، فقد أمسك بصحيفة كانت أمامه على المكتب، ووضعها فى الوضع الصحيح للقراءة، ثم قلبها رأسا على عقب، وقال: «لقد حان الوقت لكى يتحرر المعلق السياسى فى الإعلام المصرى من بحثه عن شىء يمكنه الكتابة عنه من الصحف المصرية وحدها، وبما أنه فى الغالب لا يجد ضالته فإنه يقلب فى الصحيفة يمينا ويسارا ورأسا وعقبا».

كانت هذه أيضا إحدى لحظات الأمل، الذى لم يدم طويلا، فسرعان ما استنزف الرجل فى مقاومة ظواهر الفساد المستجدة، بسبب تدفق البترودولارات لنهب تراث الإذاعة والتليفزيون المصريين، لحساب أباطرة الإعلام الخليجى، الذين كانوا وقتها فى طور التكوين، ثم جاءت المشكلة الأكبر فى اصطفافه مع رئيس الوزراء الدكتور حجازى لمقاومة طوفان الانفتاح الاستهلاكى، وبما أن الدكتور حجازى خسر هذه المعركة أمام حيتان الاستيراد المتحالفين مع مراكز سلطوية مهمة فقد سقطت حكومته، وأخرج أبوالمجد من منصب وزير الإعلام فى الحكومة الجديدة برئاسة ممدوح سالم، التى استسلمت لسياسة الانفتاح الاستهلاكى، حتى تعاظمت كوارثها، وأدت محاولة ترشيدها المتأخرة إلى مظاهرات الطعام الشهيرة فى 18،19 يناير عام 1977، لينتقل النظام الساداتى من طور الاعتدال والانفتاح السياسى إلى طور القبضة الحديدية، التى انتهت باعتقالات سبتمبر 1981، واغتيال السادات نفسه فى الشهر التالى.

فى تلك الحقبة ابتعد أبوالمجد عن الشأن العام، وأحيانا عن مصر كلها لسنوات طوال، حتى بدأ الرئيس حسنى مبارك يفكر فى شىء من الانفتاح على النخب المثقفة كمحاولة لاحتواء التطرف الدينى، وجاء ذلك فى وقت تصاعدت الضغوط الاوروبية والأمريكية عليه لعلاج ما سماه الرئيس الأمريكى بيل كلينتون بتصلب شرايين النظام السياسى المصرى، فكان أحد الحلول هو تنشيط الدور العام لأبى المجد ونظرائه من كل الاتجاهات، وكان تأسيس المجلس القومى لحقوق الإنسان أحد أبرز هذه الأدوار فأسندت رئاسته إلى الدكتور بطرس غالى، واختير رجلنا نائبا له، ليضطلع بمعظم المسئوليات فى ظل تغيب الدكتو غالى فى الخارج معظم الوقت، مما جعل النائب فى بؤرة الصدام مع الأجهزة المعنية، وهو ما أدى إلى إعادة تشكيل هيئة المجلس بدون غالى وأبوالمجد بمجرد انتهاء دورته الأولى.

تجددت الحاجة إلى كمال أبوالمجد ضمن أعلام آخرين ــ مصريين وعرب ــ حين أختير السيد عمرو موسى أمينا عام لجامعة الدول العربية عام 2003، وسط آمال عريضة بتطويرها، استنادا إلى شعبية عمرو موسى الكبيرة فى مصر وعموم الدول العربية، وتلبية لمطلب قومى ودولى فى ظروف ما بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية على نيويورك وواشنطن، فاختير رجلنا مفوضا للجامعة العربية لحوار الحضارات، ولكن سرعان ما ظهرت العراقيل المعهودة أمام الأمين العام الجديد للجامعة ومشروعاته، خصوصا من العواصم الخليجية، وهكذا ضاع أمل آخر.

مرة أخرى وأخيرة لاح فى الأفق فجر جديد مع الربيع العربى، وثورة يناير المصرية، وكان أبوالمجد أحد أبرز الحريصين على الوفاق، والناصحين لكل الأطراف، والمحذرين المشفقين من التطرف وغطرسة الاستقواء، ولكن الأمور آلت إلى ما نعرفه جميعا، لكن الرجل مثل غيره من دعاة التوافق لم يسلم من تطاول الإمعات وتجاوزات السفهاء، حتى زاره الموت، الذى رأينا أبا العلاء يرتجيه فى زمان كزماننا هذا.
لقد فقدنا حكيما فى وقت ندرت فيه الحكمة، فهلا استبقينا بعضها عسى أن ينفعنا، حين نعيد اكتشاف حتمية التوافق؟! اللهم تقبله فى الصالحين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved