الدولة القومية وصناعة المحتوى العام

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 19 أبريل 2020 - 12:08 ص بتوقيت القاهرة

قبل أكثر قليلا من قرن واحد من الآن لم يعرف العالم الصناعة المركزية للمحتوى العام، أى صناعة وإدارة المعلومات المتعلقة بالشأن العام الداخلى والخارجى وما يستدعيه ذلك من صناعة ردود فعل شعبية عامة تساهم فى تشكيل لاحق للسلوك العام للمواطن. فى ذلك الزمان ورغم وجود بعض الصحف والكتب والمجلات إلا أن توزيعها ظل محدودا، وكذلك لم تكن موجات الراديو ولا الإرسال التلفزيونى قد بدأت فى البث بعد، وقطعا لم يعرف العالم وسائل التواصل الاجتماعى ولا عصر الانترنت!
يمكن تخيل كيف كانت محدودية وبطء سرعة انتشار الأخبار والمعلومات العامة، وكيف كانت محدودية الوعى العام مقارنة بالأيام المعاصرة.
تغير عصر تداول المعلومات وصناعة المحتوى العام كثيرا بعد الحرب العالمية الثانية، فأصبح البث الإذاعى ومن بعده التلفزيونى متاحا للعامة، وكانت بداية الانتشار الواسع للصحافة الورقية، وبدأت سرعة انتقال المعلومات العامة فى التزايد ومعها تسارعت وتيرة تشكل الرأى العام تجاه مواقف وقضايا عامة داخلية وخارجية، وارتبط ذلك أيضا بازدياد عدد الدول المحررة من الاستعمار وبروز واستقرار الدولة القومية ذات الحكم المركزى والمشاريع العامة القومية فى إفريقيا وآسيا تحديدا، ومع ذلك كان الاهتمام بالخدمات العامة من صحة وتعليم وبنية تحتية... إلخ.
***
كان التحول الكبير فى عصر تداول المعلومات العامة وصناعة محتواها هو المركزية، فلم يكن عصر الفضائيات قد بدأ بعد، وكانت معظم دول العالم إما تمتلك أو تساهم فى امتلاك أو على الأقل إدارة الإعلام، لم تكن المهمة سهلة، فالآن ما يحدث فى أى شبر فى البلاد يُعرف بشكل أسرع ويتاح لعدد أكبر من المواطنين، ومن ثم ولضمان التحكم فى ردود فعل الناس وفى سلوكهم السياسى، اعتمد عدد كبير من دول العالم وخاصة فى آسيا وأفريقيا وبعض دول أمريكا اللاتينية على التحكم فى كل منابر الإعلام وصناعة المحتوى العام، بحيث كان الإعلام أهم أدوات السيطرة والتحكم فى مشاعر الجماهير وتوجهاتها السياسية.
مع بداية عصر الفضائيات ومن بعدها ثورة الانترنت ولاحقا منابر التواصل الاجتماعى فقد ازدادت سرعة انتشار الأخبار والمعلومات وتداولها ولكن ارتبط بذلك تحدٍ كبير للدولة القومية، إذ فقدت السيطرة والاحتكار لصناعة المحتوى العام وأصبحت عدة جهات أخرى داخلية وخارجية، خاصة وحزبية قادرة على منافستها فى السيطرة على وعى الجماهير ولم يعد من الممكن احتكار توجهاتهم السياسية. فى الواقع يمكن رؤية هذا التطور الأخير من زاويتين مختلفتين، الزاوية الأولى، هى زاوية افتقاد الدولة القدرة على احتكار صناعة الرأى العام وما يمثله ذلك من تهديدات للأمن القومى لهذه الدول وخاصة مع تحول الإعلام إلى أداة للحرب وإدارة الصراعات بين الدول، ومن ناحية ثانية، يمكن رؤية هذا التحول أيضا باعتباره فرصة أكبر للدول القومية للتواصل السياسى والعام مع المواطنين وكذلك فى التعبير عن الرؤية والمواقف والمصالح القومية من القضايا الإقليمية والدولية المختلفة، حيث أضحى الإعلام وصناعة الدراما والسينما من أهم أدوات السياسة الخارجية للدول.
***
فى الحرب الباردة والتى استمرت لأربعة عقود بين الولايات المتحدة والعالم الغربى وبين دول الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية قد تم حسمها بسبب تفوق الغرب وتحديدا الولايات المتحدة فى امتلاك أدوات القوة الناعمة وخاصة المنابر الإعلامية العالمية مثل «السى إن إن» فضلا عن صناعة السينما فى هوليوود والتى يعتقد أن لها دورا كبيرا فى حسم الصراع عن طريق التأثير الناجح على شعوب الاتحاد السوفيتى وتغير توجهاته ناحية سياسات موسكو الشيوعية!
فى الصراع العربى الفلسطينى لعب الإعلام والسينما والدراما والمسرح دورا كبيرا فى تشكيل وعى الجماهير العربية بهذه القضية، ووقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتى بدأت عام ٢٠٠٠ وواكبت انتشار الفضائيات العربية، فقد تشكلت هوية مشتركة للأجيال العربية الجديدة من هذا الصراع وخاصة بعد فشل وعود السلام التى سيطرت على الوعى العربى العام خلال عقد التسعينيات. فى الصراع القومى بين باكستان والهند، يعتقد دائما أن الهند أفضل فى إدارة الصراع على الأقل من ناحية التعبير عن الموقف من الصراع للرأى العام العالمى بسبب تفوق السينما الهندية «بوليوود» وصناعة التكنولوجيا فى الهند على نظيرتها فى باكستان! كذلك فإن الثورات العربية التى بدأت مع نهاية عام ٢٠١٠ ومازالت آثارها باقية حتى الآن فقد تفجرت أيضا بدور لا يمكن إغفاله للفضائيات الإقليمية ووسائل التواصل الاجتماعى، وكما كانت لهذه الأدوات الجديدة دور إيجابى فى كشف الفساد وصناعة توجه سياسى شعبى يطالب بالتحرر من السلطوية والانتقال نحو الديموقراطية، فقد لعبت أيضا دورا سلبيا فى نشر الإشاعات أو تحقيق بعض الأجندات لبعض الدول على حساب مصالح واستقرار دول أخرى عن طريق التركيز الموجه على قضايا عامة بعينها داخل بعض الدول والتغاضى عن بعض القضايا الأخرى بشكل انتقائى لاستغلال حماس البعض فى الدفع نحو تغيرات بعينها، والسكوت عن تغيرات أخرى فى البعض الأخر!
***
عصر منابر التواصل الاجتماعى تحديدا كانت نقلة ثالثة فى إدارة صناعة المحتوى العام وتشكيل رأى الجماهير ذلك أن الانتقال فى هذه الإدارة لم يتغير فقط من المركز إلى الأطراف ومن احتكار الدول القومية إلى منافسة المنابر الخاصة والخارجية والحزبية ولكن أصبح الفرد هو فى حد ذاته مصدر لصناعة المحتوى العام!
فى العقد الأخير تمكن بعض الأفراد على مواقع التواصل من اجتذاب العديد من الجماهير التى صدقتهم ووثقت فيهم، ومن ثم بدأ صراع من طبيعة جديدة بين الأفراد والدول القومية حول التحكم فى صناعة المحتوى العام، بعض الدول مثل إيران والصين وكوريا الشمالية قررت اللجوء إلى الحل الجذرى بمنع معظم أو كل وسائل التواصل الاجتماعى وتقديم بديل «وطنى» لها، دول أخرى لم تمنع هذه المواقع ولكنها لجأت للكثير من الإجراءات الاحترازية ومنها الحجب أو المراقبة أو تغليظ العقوبات على المخالفين لقواعد بعينها حددها القانون، بينما مازالت دول أخرى تسمح بالحرية التامة لتداول المعلومات العامة والسياسية وصناعة الرأى العام، والاكتفاء إما باستمالة بعض الشبكات الإعلامية الدولية أو الإقليمية، أو بالحرص على إنشاء حسابات موثقة لكل الجهات والمصالح الحكومية بالإضافة إلى المسئولين الرسميين لضمان مواجهة أى عملية منظمة للدفع فى اتجاه بعينه قد يكون ضد المصلحة الوطنية كما تعرفها النظم الحاكمة لهذه الدول.
***
مع انتشار وباء كورونا ولجوء معظم دول العالم إلى سياسات حظر التجوال والبقاء فى المنزل، فيبدو أن هناك ملمحا جديدا لصراع من نوع جديد باستخدام هذه الوسائل فى لعبة تلميع بعض الأنظمة السياسية أو التشكيك فى قدرات الأنظمة السياسية فى دول أخرى على إدارة أزمة انتشار الوباء!
فى الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، يمكن ملاحظة الاختلاف فى تغطية محتوى المؤتمرات الصحفية اليومية التى يقوم بها الرئيس ترامب بخصوص تطور الأزمة والتى أصبحت الولايات المتحدة من أكثر المتضررين منها بين شبكة «سى إن إن» والتى تركز على بعض أخطاء الإدارة الأمريكية وتضخمها أحيانا، وبين شبكة «فوكس» والتى عادة ما تلجأ إلى مبالغات كبيرة وصلت إلى حد الدعاية السياسية الفجة لقدرات إدارة ترامب على إدارة هذه الأزمة. فى هذا الصراع بين الشبكتين الإعلاميتين الكبيرتين، يمكن ملاحظة تركيز «سى إن إن» على ضرورة البقاء فى المنزل وعدم الاستجابة إلى نيات ترامب المعلنة بإعادة الحياة إلى طبيعتها رغم تهديدات الوباء بحجة حماية الاقتصاد من الانهيار، بينما تحاول فوكس التركيز على الجوانب الإيجابية لعودة الحياة إلى طبيعتها ومخاطر استمرار البقاء فى المنزل والإغلاق الكامل للحدود لفترة زمنية طويلة!
على النقيض من ذلك فإدارة أزمة انتشار الوباء كانت أسهل نسبيا فى دول شرق آسيا (الصين، كوريا الجنوبية، واليابان)، إذ أنه ورغم اختلاف طبيعة الأنظمة السياسية فى الدول الثلاث إلا أن الثقافة الآسيوية المركزية والتى تفضل التحالف والتعاون مع السلطة الحاكمة وقت الأزمات وعدم الإكثار من النقد أو التركيز على السلبيات قد ساهم فى إدارة أكثر سلاسة للأزمة فى هذه الدول رغم أن انتقادات معتبرة مازال يمكن توجيهها لهذا المنحى المركزى.
فى مصر والمنطقة العربية فإن ملامح هذا الصراع الجديد كانت حاضرة، فبينما خصصت وزارة الصحة المصرية صفحات رسمية للتواصل مع المواطنين لإدارة الأزمة على مواقع التواصل الاجتماعى، فقد كانت صفحات أخرى بعينها مصدرا لترويج الإشاعات أو التركيز على السخرية والتهكم من أى مجهودات حكومية فى هذا الصدد، وفى الأسابيع الأولى لإدارة هذه الأزمة فى مصر فإن هذه الصفحات كانت تحظى بمتابعة أكبر من الصفحات الرسمية للدولة وهو الوضع الذى تغير تدريجيا بعد ذلك لصالح الدولة المصرية. كذلك، يمكن ملاحظة الطريقة الانتقائية التشكيكية التى تعاملت بها بعض الفضائيات الإقليمية والتى تعبر عن دول أو جماعات بعينها وميلها إلى التشكيك الدائم فى قدرات الدولة المصرية على إدارة الأزمة أو محاولة التشكيك فى الأرقام المعلنة من جانب الدولة المصرية لدرجة أن بعض هذه المنابر قد اعتمد على دراسات غير علمية للزعم بأن مصر هى الدولة صاحبة المعدلات الأعلى فى العالم من الإصابة بالوباء وهو قطعا زعم غير صحيح! من ناحية أخرى وفى تبرير بعض السياسات التعسفية التى اتخذتها بعد الدول العربية الصديقة ضد المواطنين المصريين بحجة نشر الوباء فقد سربت بعض المصادر فى هذه الدول لبعض الأصدقاء الصحفيين أن سبب هذه القرارات هو الحديث فى مواقع التواصل الاجتماعى المصرية عن أعداد أكبر من المعلن، وهو قطعا أمر لا يمكن تصديقه، ولا أفهمه إلا فى ضوء تبريرات هذه السياسات التعسفية ضد المواطنين المصريين.
فى عصر الوباء تحديدا فإن الإقبال الجماهيرى على هذه المنابر الحديثة لصناعة المحتوى العام ومن ثم تشكيل الرأى العام ازداد بشكل كبير بسبب المكوث لفترات طويلة فى المنزل وهذا قطعا تحد كبير لقدرة الدول القومية فى التحكم فى عملية صناعة الرأى العام أو حماية المصالح القومية، لكن مزيدا من الشفافية والاتساق من شأنه زيادة ثقة المواطنين فى الدولة ومن ثم قدرة أفضل للأخيرة فى إدارة الأزمة.

أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved