التصدى بالحكمة والحزم للتعنت الإثيوبى

صلاح ابو الفضل
صلاح ابو الفضل

آخر تحديث: الأحد 18 أبريل 2021 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

أثلجت تصريحات الرئيس حول التعنت الإثيوبى صدور كل المصريين الذين أَقَضَّ هذا التعنت مضاجعهم مع اقتراب شهور الصيف. وقد لمس الرئيس أوتار كل القلوب حين نبه إلى أن المغامرات بمستقبل النيل لن تضر بمصر أو السودان فقط بل بكل المنطقة، وبذلك شمل تحذيره كل الطامعين فى منطقة القرن الإفريقى. ورغم أن تصريحات الرئيس المحسوبة بكل دقة جاءت تمهد الأجواء لساعة حسم لا رجعة فيها، إلا أن الإشارات القادمة من هضبة الحبشة لازالت تدل على أن إثيوبيا تصر على المضى فى المؤامرة الجنونية ضد دولتى حوض النيل اللتين جاورتهما منذ آلاف السنين وتقاسمت معهما عطاء السماء فى السنوات السمان والسنوات العجاف مثل باقى البلاد على وجه البسيطة. وقد حاولت مصر بقدر هائل من ضبط النفس أمام عنجهية وصلف لم يسبق لهما مثيل، أن تشرح للإثيوبيين أولا، وللسودانيين فيما بعد، جنون ما يراد لها أن تقبل به أو تتحمله. لكن خطاب العقل وحديث القانون وحجج المنطق لم تلق من إخوة المياه إلا إعراضا مريبا وإصرارا مبيتا على تعريض الدولتين المصرية والسودانية لخطر داهم يصل إلى حد تهديد الوجود فى جنبات الوادى. ونحن لا نريد ولا يصح لنا بعد ما أعلنه الرئيس أن نستنطق قيادتنا بما أعدته من خطط لمواجهة الجنوح الإثيوبى وما يصاحبه من تراخى المجتمع الدولى الذى يبدو وكأنه يستمرئ الفرجة علينا فى ظروف الانشغال بمشكلات الوباء ونذر الحرب الباردة الجديدة. لكن يظل واجبنا كمواطنين أن يسمع العالم صوتنا وأن يرى تحفيزنا للقيادة بالتحرك سلما أو حربا. إلى جانب أن أى تحدٍ تاريخىٍ يهدد الوطن يجب أن يتجلى فيه بكل وضوح تكاتف الأمة كلها خلف قيادتها، تدعمها وتدفعها إذا لزم الأمر للدفاع عن مقدراتها.
***
والمعضلة التى تواجهنا مزدوجة، أولها خصم عنيد، يبدو أن وراءه من يسول له أننا لن نقدم أو ربما لن نقدر على استخدام القوة، ولذلك فهو مستمر فى غيه وإطلاق تصريحاته العنترية بثقة تبعث على الدهشة وتفرض التساؤل من أين له بهذه الثقة اللامتناهية وهل هناك ما يبررها ولا نعلمه؟ وهذه الثقة غير المبررة والصلف المتعجرف من الطرف الباغى قد تبعث فينا نحن أصحاب الحق بعض المخاوف والشكوك، وقد تكون ستار دخان خبيث ومتعمد لإضعاف عزيمتنا وتفتيت ثقتنا بأنفسنا.
والأمر الثانى هو أن دول العالم المؤثرة لا تبدو على استعداد حتى الآن لممارسة الضغط اللازم لتنبيه الإثيوبيين إلى خطورة اللعبة التى يلعبونها. بل ربما راح البعض يرسل لنا تحذيرات بعدم اعتماد الحل العسكرى. وينبغى هنا أن نلتفت بكل الحذر إلى الثقافة الصهيونية المسيطرة فى دوائر الغرب والتى تفرض أبجديات عداء ضمنى ضد مصر تمتزج فيه الرغبة فى إضعافنا بالشعور بأننا نتحصل على الكثير من المساعدات ومع ذلك لا زلنا نشكو من الفقر، وتعيق اتخاذ مواقف عادلة من قضايانا. ولعل زيارة نتنياهو لإثيوبيا العام الماضى لم تغب عن أذهاننا حين وعد بابتسامة عريضة أن إسرائيل ستساعدهم على استغلال كل قطرة من مياههم. وقد جاء التصريح الأخير للسيد دينا مفتى ممثل الخارجية الإثيوبية مصداقا لذلك حين أعلن أن بيع المياه سيكون أمرا ملائما لمصالح إثيوبيا مستقبلا. وكلها تصريحات تدل على أن هدف إثيوبيا ليس توليد الكهرباء ولكن بيع المياه على حساب مصر والسودان.
***
والمتأمل للتصريحات الإثيوبية حول الخلاف يلمس آثار مشاعر سلبية قديمة تنقم على مصر تاريخها وتقدمها وتراه نتيجة لمياه النيل، وبالتبعية فهى ترى مصر مدينة لإثيوبيا بحضارتها ونبوغها. ولا يبدو أن بين الإثيوبيين من يتفهم أن النبوغ المصرى لم يكن مجرد نتيجة لمياه النيل بل نتاج نشاط إنسانى فريد عبر العصور. كما لا يبدو أنهم يسألون أنفسهم لماذا لم تصنع بلادهم حضارة مماثلة وقد حبتهم الطبيعة بأضعاف ما حبت به المصريين من ماء. ولأن الحقد قديم وموروث فقد درج الإثيوبيون على تخيل أن ماء النيل هو هبة إثيوبيا وليس السماء وأنه ماؤهم وأنه من حقهم أن يمنعوه أو يسمحوا به، وأن ساعة الانتقام قد جاءت فى غفلة من الزمن حين نامت نواطير مصر عن ثعالب كثيرة تربصت بها وكانت تتحين الفرص. ورغم أن الهضبة الحبشية تضم منذ قرون قبائل وأعراق متباينة ومتنافسة، إلا أن فكرة السد حين تجسدت أصبحت بؤرة تجمع الفرقاء وتوحد الأشقياء بحيث أن أى خطر يهدد السد أصبح عاملا يوحدهم وينقل العداوة نحو مصر والسودان وهو ما يجعل التفكير فى هدم السد سلاحا ذا حدين.
وينقلنا ذلك إلى مشكلة القوى الخارجية التى طالما وجدت فى مصر خطرا تنافسيا وظلت تعمل على إضعافها ووضع العراقيل أمام نهضتها، حتى تحينت الفرصة عند نهاية مبارك ونفثت فى آذان الإثيوبيين وعقولهم سمومها وشجعتهم وأعطتهم المشورة فى أسلوب للتفاوض اعتمد التسويف والمماطلة، ومبدأ أكذب واستمر فى الكذب حتى يصدقك الجميع. وهى أساليب أعلى من ثقافة وكفاءة الإثيوبيين الذين يصرون من خلالها على تجاهل القوانين الدولية التى تضمن حقوق دول المصب إزاء دول المنبع، ويرفضون اتفاقيات عقدت مع بريطانيا والتزمت بها مصر بعد استقلالها، يجثمون بمقتضاها على أراض سودانية وفى نفس الوقت يرفضون الالتزام بعدم إقامة منشآت على نيلها الأزرق كما اقتضت نفس الاتفاقيات. وهو ما يجعل من إثيوبيا دولة مارقة لا تعبأ بالقانون الدولى، لا تحترم معاهداتها وتمارس القرصنة التى مارستها مع بعض جيرانها سابقا، ويضع المجتمع الدولى بالضرورة أمام مسئولية أساسية لحماية الشعبين المصرى والسودانى المهددين وجوديا بالفناء إذا تم لإثيوبيا ومموليها ومحركيها ما يريدون، وهو ما تضمنه تحذير الرئيس.
وأمام القرصنة الإثيوبية لم يعد أمام مصر والسودان إلا التصدى بالحكمة والحزم معا. والحكمة تستلزم الوعى بأن الحق وحده لا يضمن الحصول عليه إلا إذا كانت هناك قوة جاهزة ناجزة تسنده وتنتزعه من براثن المعتدى. والحزم يستلزم وضوح الرؤية والإصرار على استخدام كل الوسائل لتحقيقها. ولا شك أن طريق التفاوض ودعوة الجميع إلى التبصر بالعواقب تظل الطريق المعلن والمفضل. لكن ينبغى على صناع القرار إدراك أن التلويح بالقوة وحده لن يكفى أمام صلف وجهالة الخصم، إلا إذا تأكد له أن القوة ستستخدم فعلا. أى أن القدرة العسكرية وحدها لا تكفى ولكن يستلزم العزم المؤكد على استعمالها. وهى دروس تعلمتها مصر فى صراعاتها السابقة. الأمر الثانى أنه لا يجب تصور أن الدفاع عن حقوقنا يمكن أن يتحقق بمعركة عسكرية خاطفة كما يظن البعض بل يجب أن نكون جميعا أمة وجيشا وقيادة مصريين وسودانيين مستعدين لمعركة طويلة على جبهات متعددة ربما لا يكون السد أولها، تستلزم طول النفس وتعتمد الإيمان بالحق والإصرار عليه وتهدف إلى شق الفرقاء الذين تعمل بينهم تناقضات كثيرة. وقد يكون الاستيلاء على السد وفرض معاهدة إدارة مشتركة وحقوق واضحة فى مياه النيل لكل الأطراف هو أفضل الأهداف للتفاوض أو للقوة أو كليهما، والله يحفظ شعوب مصر والسودان وإثيوبيا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved