حنين إلى الماضى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 18 مايو 2011 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

أحرص على ألا يفوتنى الكثير مما يحدث فى الصين. كانت الصين بالنسبة لى الدرس الأجنبى الثانى بعد الهند فى سلسلة دروس عملية، ومعملية إن صح التعبير، فى علم السياسة.

لم تكن الصين موضوعا سهلا فالخلفية الثقافية والحضارية متباينة واللغتان العربية والصينية لا تنتميان إلى عائلة واحدة أو قرابة من أى درجة فضلا عن أننا كنا فى بكين نعيش فى جو غير عادى، نعيش معظم أيام الشتاء الطويل فى درجة حرارة تحت الصفر بعشرين وأحيانا بأربعين وأحيانا أكثر عندما كانت بكين تتعرض لرياح جليدية تهب عليها من منطقة الحدود مع روسيا عبر مدينة اركتسوك، وكانت وقتها من المدن ذائعة الصيت بين زوار الصين القادمين من الغرب.

أدركت فى ذلك الحين أننى لن أنسى المدة التى قضيتها فى الصين أو أنسى والدرس الذى أخذته. جليد فى الشتاء أو رطوبة شديدة فى الصيف ووقت فراغ لا نهائى لمن لا تعنيه أو تغذيه النميمة ومن لا يجد ما يقرأه وإن وجده وقرأه لم يفهمه. قابلت كثيرين لم ينسوا تجربة الحياة فى الصين ومنهم حسن رجب المهندس الذى اخترع بوصلة سميت باسمه، ووجد الصينيين يستخدمونها ومنهم الشاعر نزار قبانى، معظم هؤلاء انبهروا بقوة الماضى وتغلغله فى حياة أهل البلد وسيطرته على فكر وعقل رجال السياسة والحزب، ومنهم من اقتنع برأى أهل الحداثة الذين أقسموا أن يحرروا الإنسان الصينى من قبضة ماض شرس لا يغادر.

●●●

كنت أقرأ منذ أيام عن استعدادات الحزب الشيوعى الصينى لانتخابات الرئاسة المقبلة المزمع عقدها فى عام 2012.

فهمت من الحوار الدائر أن هذه الانتخابات تحديدا ستدور حول صراع جيل قديم يجب أن يتنحى لصالح جيل جديد عاش معظم حياته فى ظل هذا المزيج الفريد من مبادئ شيوعية وممارسات رأسمالية. شعرت بأن الانتخابات هذه المرة قد تكون أهم من مجرد سباق على الرئاسة أو منافسة بين جيلين. وجدت الحنين إلى الماضى وقد احتل مكانة الصدارة فى أولويات هذه المرحلة، ووجدته أوضح ما يكون فى خطط جهازى الإعلام والتثقيف فى الحزب الحاكم وفى لهجة الصحف وتصريحات قادة سياسيين فى المناطق الريفية.

عاد اللون الأحمر أجمل الألوان وأوسعها انتشارا. عادت قصائد الهجاء تندد بأفكار الحكيم الأعظم كونفوشيوس وقصائد الولاء والحب تشيد بالرئيس ماوتسى تونج.

نقلوا تمثال الحكيم الأعظم من داخل المتحف الأشهر فى كل آسيا إلى موقع قريب من البواية الرئيسية فى خارج المبنى. وصدر فى أحد الأقاليم قرار ببناء أضخم تمثال فى الصين للرئيس ماو، بعد عقود لم يبن له فيها تمثال واحد.

عاد الحزب يستخدم أساليب ساذجة، أو هكذا تبدو للدارسين المتأثرين بثقافة الغرب. وفى الحقيقة هى ليست أساليب ساذجة لكنه موضوع يطول شرحه.

ففى مدينة زيانج قرر العمدة تشكيل فرقة من المرضى فى مستشفى الأمراض العقلية وكلفها بعد أن دربها بأن تنشد 36 أغنية من أغانى الثورة الثقافية، وهى الثورة التى خطط لها ونفذها الرئيس ماو ليستعيد بها التوازن بين القوى الرئيسية فى الدولة، وهى الحزب والجيش والبيروقراطية. ويقضى على الفساد ويستبعد ضعاف النفوس والمنافقين.

واستمرت الفرقة تغنى لأيام عديدة، حتى أعلن الأطباء أن المرضى عادوا أصحاء وتحقق شفاؤهم تماما من المرض وزالت جميع الأعراض. المثير فى هذه التجربة أن صداها تردد فى جميع الأنحاء وقيل إن المكتب السياسى للحزب الشيوعى الصينى كلف عددا من كبار أعضائه لزيارة المدينة وتهنئة عمدتها بفكرته البديعة والنظر فى تعميم التجربة رغبة فى إذكاء روح الولاء للماضى والتذكير بكرم الحزب.

●●●

أفهم أن الحاضر عندما يكون غير مرضٍ و مخيبا للآمال والتوقعات يلجأ الإنسان إلى الماضى يتذكره أجمل مما كان فى الحقيقة.

يرى الشوارع أنظف والأسعار أرحم والناس أحلى وأطيب. أفهم أن يزداد رضا الناس عن الماضى فى وقت الأزمات ولكنى لا أفهم أن يختار بعض الناس العيش فى جلباب الماضى لا ينتجون ولا يحلمون ولا يعقلون، بل باسم الماضى يخربون ويهدمون وينشرون الكرة. وقد يقتلون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved