سياحة الدكان

هديل غنيم
هديل غنيم

آخر تحديث: الإثنين 18 مايو 2020 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

تعليمات الحظر فى ولاية ميشيجان تعنى أن نقر جميعا فى بيوتنا لا نخرج منها إلا للتمشية أو لشراء الطعام والدواء. وتشمل تعليمات الغلق المسارح والمكتبات وكل أماكن الجلوس فى المطاعم والمقاهى وكل المحلات التجارية والخدمية غير الأساسية. المكان الوحيد المسموح لى التردد عليه والتجول داخله منذ منتصف شهر مارس الماضى هو السوبر ماركت. لا أتنازل عن رحلات التسوق هذه ولا أبدلها بالشراء أونلاين لأنه إجراء سريع وعملى ورتيب ولن يأتى سوى بقائمة من الطلبات المعتادة، بينما يخلو من أجواء الرحلة وكل ما يمكن أن يحدث فيها من مغامرات واكتشافات مثيرة.
***
لاحظت بعد مرور الأسابيع أننى قد مللت السلاسل الأمريكية المعروفة التى أتسوق فيها باستمرار، فما أن راودتنى صور القطايف الرمضانية حتى تذكرت الدكان العربى الذى يقع على أطراف المدينة الجامعية الصغيرة التى أسكن بها. دب الحماس فى روحى. ارتديت الحذاء المريح والتقطت المناديل المطهرة وحقيبة مشتروات فارغة، ثم ودعت أسرتى ووعدتهم بأن أعود بعد قليل ومعى حاجة حلوة.
***
المسافة إلى الدكان العربى الكبير الذى تمتلكه وتديره عائلة فلسطينية لم تستغرق أكثر من ربع الساعة بالسيارة، ومع هذا لم أذهب هناك سوى مرة واحدة لوجود دكان عربى أقرب قليلا يمتلكه عراقى كلدانى.
***
انفتحت حواسى بمجرد دخولى من الباب، بل وتسارعت دقات قلبى استعدادا للغزوة المرتقبة والغنيمة التى تنتظرنى، فأخذت نفسا عميقا لكى أهدأ، وبدأت جولتى فى تأنٍ. أول ما لفت نظرى كانت علب الحلوى القادمة من الأردن، أعرفها جيدا منذ أن زرت عمّان فى مطلع الألفية وأعرف أن مؤسسها محمد زلاطيمو بدأ فى صناعة الحلوى فى القرن التاسع عشر فى القدس القديمة وبالقرب من كنيسة القيامة. أذكر نفسى إنى أتيت اليوم للقطايف التى يتم إعدادها طازجة فى المخبز الخاص بالمحل والواقع فى آخره. سأتجه إلى هناك ولكن ليس قبل أن أمر ولو سريعا فى باقى الممرات لأملى بصرى وأسجل فى عقلى ما قد نحتاجه لاحقا.
***
سجلت إعجابى بتعدد أنواع الحلاوة الطحينية خاصة فى العلب التى تشف عن طبقات حشوها، وتوقفت عند علب عصير الجوافة أبحث عن بلد المنشأ، وتذكرت الجوافة التى جمعتها من الشجر وأنا طفلة فى بيت جدى والتى لم أذق مثلها حتى الآن وأعدت العلبة مكانها بعد أن ربتت عليها.
***
لست بحاجة إلى كل هذا السكر. نظرت من زجاج الثلاجات والتقطت لبنة مصنوعة محليا بأيادٍ لبنانية خبيرة، وترددت قليلا بين الجبن العكاوى والجبن الحلوم. لا أحتاج إلى مزيد من الخضروات المجمدة لكن كان لا بد من إلقاء التحية على الملوخية المصرية والاطمئنان على وفرة المعروض من البامية الزيرو.
***
ها أنا أتلكأ بالفرجة وقد تختفى القطايف. توجهت إلى ركن المخبوزات وبمسح بصرى سريع لم أجد ما يدل على ضالتى، كان هناك شاب منهمك فى عجين ما، وآخر مكفهر بجانب الفرن، سألتهما وعرفت أنها لن تكون متاحة قبل ساعتين. ربما ظهرت علامات الخيبة على وجهى لأن أحدهما عالجنى بطبق من القطايف الفلسطينية كبيرة الحجم والتى تشبه البان كيك الأمريكية. قدمها وقال لى إنها مخبوزة بالأمس. قبلتها بكل سرور وشكرته. استدرت لأجد المفاجأة الحقيقية: فى ركن الخضراوات الطازجة لمحت باذنجان عروس أسود رشيق، وهو صنف لا أجده سوى فى أسواق المزارعين صيفا، بينما الصنف الأمريكى المنتشر يفوق الباذنجان الرومى فى حجم انتفاخه. لاحت احتمالات المحشى فى الأفق. أعرف جيدا أن هناك من يستهجن حشى العروس الأسود، لكنهم لا يعرفون أن رؤية النمر الأبيض النادر فى إحدى الحدائق هنا أقرب للتحقق من العثور على الباذنجان الأبيض.
***
تذكرت كيف كنت أصنع المحشى بدون مقورة، فتتحول الباذنجانة العروس فى يدى إلى شرماء جريحة، حتى تدخل صاحب الدكان العراقى وفسر للمساعد الأفغانى الأداة التى كنت أحاول أن أصفها له. يتميز الدكان العراقى رغم صغر مساحته أن بضاعته تضم نكهات ومنتجات فارسية وأفغانية بجانب المنتجات العربية والتركية. هناك وقعت على ألذ تشكيلة من الخضراوات المخللة ولا عجب أننا نستعمل اسمها الفارسى «ترشى». سأذهب هناك فى الأسبوع القادم، أما الآن فيجب الإسراع بالعودة خاصة وقد زادت مشاريع الحشو. على ذكر الحشو، انتزعت كيس من الرز المصرى الفاخر، وبدون تفكير أضفت إلى سلتى برغل شامى وزعتر فلسطينى وعلبة هريسة تونسية.
***
وصلت لآخر محطة فى رحلتى ووقفت متباعدة فى طابور الدفع، فوقع نظرى على مسحوق البن الصومالى مضاف إليه قرفة وجنزبيل وحبهان. غلبتنى روح المغامرة ووضعتها فى سلتى، فأنا لم أذق قهوة صومالية من قبل. وفى اللحظة الأخيرة قبل أن يأتى دورى خطف بصرى لمعان برتقالى اللون يضوى من غلافه السيلوفان. أعتقد أنى قفزت فى مكانى بشكل ملحوظ ولكن ما الذى يهمنى وقد حصلت على قمر الدين؟ بلد المنشأ: سوريا، والصانع اسمه محمد الحلبى. توّجت سلتى لفافتين: واحدة للشراب والثانية تذكار.
***
دفعت الحساب لمراهق صغير يبدو وأنه يساعد أسرته فى ظل إغلاق المدارس. سألته بالإنجليزية عن القهوة الصومالية فقال إنه أيضا لم يجربها من قبل، ومع نهاية المعاملة تحولت المحادثة بيننا إلى العربية بلهجتى المصرية ولهجته الفلسطينية، ثم تبادلنا التحية الموسمية: «رمضان كريم»، «كل سنة وانتم طيبين». كنا فى منتصف الشهر تقريبا ولكنها كانت أول مرة أنطق بها واستقبلها وجها لوجه مع فرد خارج أسرتى. انتهت المغامرة وخرجت شاكرة من الدكان الكبير ومعى حقيبة عامرة برائحة الوطن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved