لا تسارعوا إلى تأبين الدور الروسى فى سوريا

من الصحافة الإسرائيلية
من الصحافة الإسرائيلية

آخر تحديث: الخميس 19 مايو 2022 - 11:17 ص بتوقيت القاهرة

كرميت فالنسيا*

مؤخرا، برزت تقارير تحدثت عن انسحاب القوات الروسية من سوريا وانتقالها إلى جبهة القتال فى أوكرانيا. وترافقت هذه التقارير مع ادعاء أن الإيرانيين بدأوا باستغلال الفراغ الذى تركته روسيا وتعميق وجودهم فى سوريا. فى هذه النقطة الزمنية، من الأصح أن نأخذ فى الحسبان الواقع المعقد فى سوريا: حتى لو كان هناك دلائل على تحريك القوات الروسية وإرسال بعضها إلى أوكرانيا، فإن هذا لا يدل على تغيير استراتيجى فى الانتشار الروسى فى سوريا، وهو بالتأكيد ليس بداية لانسحابها من هناك. وهناك عدة تفسيرات لما يجرى.

الوجود الروسى فى سوريا هو فى الأساس محدود، ولا يتطلب موارد استثنائية من موسكو، حتى فى ضوء مراوحة الوضع فى أوكرانيا. إن أحد الخطوط الأساسية للاستراتيجية الروسية فى الساحات المختلفة فى العالم هو «أقصى حد من التأثير، مع أدنى حد من الاستثمار». سوريا نموذج كلاسيكى من ذلك، لقد فهم الروس هناك أنهم قادرون على استخدام حد أدنى من القوة العسكرية من أجل تحقيق أقصى حد من النتائج: نفوذ إقليمى، ومنع الأمريكيين من أن يكونوا اللاعب المركزى فى المنطقة.

ضمن إطار هذه المقاربة، لا تحتاج روسيا إلى التواجد فى كل الأراضى السورية من أجل المحافظة على تأثيرها. فى الأعوام الأخيرة، أعطت موسكو أولوية لمركزين استراتيجيين فى غرب سوريا: المرفأ البحرى فى طرطوس، والقاعدة الجوية فى حميميم، الواقعين عمليا تحت سيطرتها. بالإضافة إلى ذلك، هناك وجود روسى فى مواقع صغيرة أكثر فى شرق جنوب سوريا؛ حيث تعمل قوات «الشرطة العسكرية الروسية» المسئولة، من بين أمور أُخرى، عن تهدئة الأجواء فى المواجهات التى تنشب بصورة مستمرة بين قوات النظام والميليشيات الموالية لإيران وبين ما تبقى من أطراف المعارضة.

تعتمد الاستراتيجية الروسية على فكرة «الوكلاء». ويمكن لهؤلاء الوكلاء أن يكونوا مرتزقة من فرقة فاجنر، أو ميليشيات سورية محلية. لذلك، فإن نقل «شرطة عسكرية»، أو قوات محلية تعمل بإمرة روسيا، من منطقة انتشار إلى أخرى، وحتى إرسال بعضها إلى الحرب فى أوكرانيا، لا يدل على انسحاب القوات الروسية من سوريا، ولا على تغيير استراتيجى فى انتشارها هناك.

بالنسبة إلى روسيا، تشكل سوريا رصيدا عسكريا ودبلوماسيا. فمنذ بدء تدخُّلها فى سبتمبر 2015، استخدمت روسيا سوريا ملعبا للتدريبات وساحة لتجربة أدواتها القتالية، شملت فحص مدى سلاحها وفعالية منظومتها الدفاعية وتطبيق عقيدتها القتالية. مع ذلك، يعتبر الروس سوريا، قبل كل شىء، بوابة إلى شرقى البحر المتوسط وموطئ قدم لترسيخ مكانتها الإقليمية والدولية. خلال الأعوام الستة الأخيرة، وطدت روسيا علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية مع دول، مثل مصر وليبيا ودول الخليج وإيران.

فى الساحة الدولية، وجود روسيا فى سوريا، وفى الأساس فى القواعد العسكرية الواقعة تحت سيطرتها، يسمح لها بتسليط الضوء على قوتها فى مواجهة الولايات المتحدة وتركيا، وفى الأساس فى مواجهة حلف الناتو. الوجود الروسى فى البحر المتوسط له أهمية كبيرة، من أجل ردع أسطول الناتو المنتشر هناك، كما أنه عامل رادع يشكل تهديدا للناتو فى السياق الأوكرانى. بناءً على ذلك، فإن فرص تنازُل روسيا عن الرصيد السورى، وعن مكانتها هناك، ونقلها إلى الإيرانيين، ضئيلة وغير معقولة. فى هذه الأيام التى يشهد فيها العالم ضعف روسيا فى أوكرانيا والضرر الشديد الذى لحق بصورتها، تزداد الحاجة الروسية، أكثر فأكثر، إلى المحافظة على ساحة التأثير السورية فى المجال الشرق الأوسطى.
• • •
صحيح أن إيران معروفة بقدرتها على تحديد الأماكن التى تسودها الفوضى، والتى تفتقر إلى السيطرة، كى تتسلل إليها عسكريا ومدنيا، لكن التقارير الأخيرة بشأن تعميق الوجود الإيرانى فى سوريا لا تحمل خبرا جديدا. من أهم الدروس التى يمكن استخلاصها من خلال متابعة التمركز فى سوريا، هى قدرة الإيرانيين على التأقلم والتكيف مع الظروف المتغيرة.

التقارير الأخيرة تفيد بأن التسلل الإيرانى فى عمق شرق سوريا، فى حلب وحمص، هو جزء من توجُّه مستمر لا علاقة له بتحريك قوات روسية أو غيرها. منذ فترة نشهد تغيرات فى الانتشار الإيرانى، تشمل تقليصا كبيرا فى عدد القادة والمستشارين فى سوريا، والاعتماد على وكلائها أكثر فأكثر، وعلى رأسهم حزب الله والميليشيات الشيعية، ومؤخرا، على سوريين محليين.

ضمن هذا الإطار، جرى تقليص للقوات الإيرانية ووكلائها فى جنوب سوريا، نتيجة الهجمات الجوية المكثفة على المنطقة، والتى تُنسب إلى إسرائيل، أو نتيجة ضغوط مورست عليها من جهة روسيا. هذه التطورات دفعت الإيرانيين فى الأعوام الأخيرة إلى تعميق تمركزهم فى شرق سوريا وشمالها فى مناطق سيطرة النظام، بهدف تقليص انكشافها وتعرُّضها للضربات الإسرائيلية. ثمة اعتبار آخر لنقل القوات شرقا، هو إيجاد موطئ قدم على الحدود مع العراق، والاقتراب من حقول النفط الموجودة هناك، وتهيئة الأرضية لليوم التالى لانسحاب القوات الأمريكية من سوريا. لذلك، فإن المقصود هو خطة استراتيجية متواصلة لترسيخ الوجود والتأثير فى عمق سوريا، وليس قرارا تكتيكيا ناجما عن تقليص محتمل للوجود الروسى فى هذه المناطق.
• • •
من المعقول الافتراض أن مسألة مستقبل الوجود الروسى فى سوريا تثير قلق الرئيس بشار الأسد الذى يعتمد على الدعم الروسى. ويمكن أن يكون لهذا علاقة بالزيارات المتبادلة، مؤخرا، بين مسئولين سوريين رفيعى المستوى ومسئولين إيرانيين، وخصوصا الزيارة المهمة التى قام بها الأسد إلى طهران فى مطلع مايو (وهى الثانية منذ نشوب الحرب فى سوريا). الهدف من الزيارة، على ما يبدو، التذكير بأهمية الحلف الاستراتيجى بين الطرفين وضمان الوجود الإيرانى فى سوريا مع الروس، أو من دونهم. وربما يدفعنا هذا إلى استحضار الخطة الطموحة والساذجة للدول العربية بالاعتراف بالأسد كحاكم شرعى وإعادته إلى حضن العالم العربى، فى مقابل أن يضمن، من جهته، إبعاد الإيرانيين عن الأراضى السورية.

فى الخلاصة، الوضع فى سوريا كما فى ساحات أُخرى فى الشرق الأوسط، هو أكثر تعقيدا من أن نصوره بالأبيض والأسود، أو «لعبة حصيلتها صفر». المصلحة الروسية فى المحافظة على وجود كافٍ من خلال تقليص التمركز الإيرانى فى سوريا لا تزال على حالها. والمصلحة الإيرانية فى استمرار التمركز فى سوريا بأساليب مختلفة هى أيضا لا تزال على حالها. ولا يزال الأسد يعتمد على الدولتين، بالإضافة إلى عدم قدرته، أو رغبته فى الانفصال عنهما فى هذه المرحلة. لذلك، من الأفضل لنا الاعتراف بهذه الدينامية المعقدة وعدم تضييع الصورة الشاملة الماثلة أمام أعيننا فى الشمال.

* باحثة في معهد دراسات الأمن القومي

موقع N12

 مؤسسة الدراسات الفلسطينية

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved