لا يناير أول التاريخ ولا الرئاسة نهاية المطاف

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 18 يونيو 2012 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

لا تمضى الثورات على طرق ممهدة كأنها رحلة مأمونة إلى المستقبل. الكلام المبكر عن إجهاض ثورة يناير فيه استدعاء لـ«النهاية» قبل أن ينتصف العرض التاريخى، وفيه إنكار لدروس التجربة المصرية على مدى مائة عام عرفت التراجعات قبل النهوض من جديد.

 

هناك من يتعجل الأحكام والاستنتاجات، فالمرحلة الانتقالية الأولى أفضت إلى رئيس يُنتخب دون أن تكون له صلاحيات معلومة يضبطها دستور، وبرلمان يُحل قبل انتخاب الرئيس بأحكام من «الدستورية العليا»، والسلطة التشريعية تعود إلى المجلس العسكرى دون أن نعرف إذا ما كانت ستنتقل بدورها إلى الرئيس الجديد أم تظل سلطة العسكرى فوق سلطة الرئيس.

 

وفق الإعلان الدستورى تجرى الانتخابات البرلمانية أولا ثم يعقبها وضع الدستور فانتخاب الرئيس ونقل السلطة إليه، وهذا الجدول ارتبك بفداحة بعد حل البرلمان وإخفاق «تأسيسية الدستور» الثانية. ليس مؤكدا أن الرئيس سوف يبقى فى منصبه لأربع سنوات قادمة، فالدستور الجديد قد ينص فى أحكامه الانتقالية على إعادة انتخاب الرئيس بعد انتخاب البرلمان.

 

إنه إذن الفراغ الدستورى الموحش فى بلد قام بثورة دعت إلى دولة ديمقراطية حديثة. الفراغ يفضى إلى اضطرابات فى ظل رئيس بلا صلاحيات قد تستحيل أدواره إلى ألعاب فى مسرح عرائس.

 

فى الفراغ الدستورى تدخل مصر إلى المرحلة الانتقالية الثانية والشكوك تتعمق فى مستقبل الثورة.

 

المخاوف تزكيها اندفاعات الحوادث واختناقات المرحلة الانتقالية عند نهايتها ولكنها تتغاضى عن التجربة العميقة التى جرت والتحولات الجوهرية فى بنية المجتمع وتسييس قطاعات واسعة فيه.

 

ثورة يناير تجربة عميقة بالدماء التى سالت فيها والطموحات التى رافقتها. انتكاستها المؤقتة لا تعنى أنها بصدد موت سريرى. الثورات تعرف الانتكاسات والتراجعات ولكنها تستعصى بأهدافها على مثل هذا المصير.

 

فى التراجيديا المصرية تجربة مشابهة فى ظروف مختلفة. فى ثورة (١٩١٩) سقط نحو (٨٠٠) شهيد وأصيب (٦٠٠) جريح. هذه الأرقام تقارب بصورة مدهشة أعداد الشهداء فى ثورة يناير، ولكن فى الأخيرة تتضاعف أرقام الجرحى والمصابين. فى الثورة الأولى صدرت أحكام إدانة بحق (٣٧٠٠) مواطن مصرى بتهم تتشابه مع التهم التى وجهت لنشطاء يناير بعد تنحية الرئيس السابق. التنكيل بالثورات بعد أن يهدأ فورانها يتكرر دائما دون أن يعنى ذلك أنها فقدت رسالتها أو ضاعت أحلامها.

 

المثير فى (١٩١٩) أن أحكاما بالإعدام صدرت على (٤٩) مواطنا مصريا ووجد (٤٧) مواطنا آخر طريقهم إلى الأشغال الشاقة. لم تكن وسائل الإعلام الحديثة قد نشأت بعد، ولا عرفت مصر الإذاعة وقتها.. كانت الصحف الوطنية محدودة التوزيع والتأثير فى مجتمع تتفشى فيه الأمية، ولكنه قرر أن يثور وأن يدخل القرن العشرين من بوابة الاستقلال والدستور. لم تكن هناك فى ذلك الوقت منظمات حقوقية أو نقابات مهنية تدافع عن حرية الرأى وحق التظاهر السلمى.

 

فى يناير جرى إنهاء المحاكمات العسكرية للمدنيين والإفراج عن أغلب المعتقلين السياسيين تحت ضغط المليونيات ووسائل الاتصال الحديثة، وطرحت قضية العدالة بصورة جديدة على رأى عام لم يعد يتقبل أو يستسيغ تنكيل السلطات بالمواطنين وإهدار الكرامة الإنسانية. الإنجازات ليست كبيرة بالنظر إلى حجم التضحيات، ولكن هناك شيئا تحرك فى المجتمع يصعب أن يعود مرة أخرى إلى المربع رقم صفر. لا عودة للوراء، فلا طبيعة العصر تسمح ولا تجربة الأجيال الجديدة تقبل.. لا استنساخ النظام السابق ممكن ولا إنتاج الدولة الدينية متاح.. هذا هو عمق ما جرى.. المجتمع بات قويا إلى حد أن الدولة يصعب أن تقهره مرة أخرى، أحزابه القديمة انهارت وأحزابه الجديدة موضع شك وقواه الحية تبحث عن أوعية وقيادات سياسية جديدة. وهذه مسألة سوف تأخذ وقتها. التضحيات وتجربتها العميقة تصنع مسارات مختلفة للتاريخ. فى ثورة (١٩) كان حجم التضحيات مقاسا بحجم السكان، كاشفا لعمق تجربتها وصلابة شعبها الذى خرج طالبا الاستقلال والدستور. ارتبك مسارها السياسى وتعثرت نتائجها لأربع سنوات كاملة حتى وضع دستور (١٩٢٣)، ثم جرى بعد ذلك الالتفاف على الحكم الدستورى وإقصاء حزب «الوفد» عن السلطة لأغلب سنوات ما بين ثورتى (١٩١٩) و(١٩٥٢). لم تتسق نتائج ثورة (١٩) مع حجم تضحياتها، ومع ذلك فإن مسارها الثقافى والفنى والاجتماعى كان نقطة تحول مفصلية فى التاريخ المصرى الحديث.

 

ثورة (١٩) بنت عصر ما بعد الحرب العالمية الأولى وما طرحه من مبادئ تتعلق بحق تقرير المصير ومثلت فى الوقت ذاته استطرادا للحركة الوطنية المصرية التى جدد روحها الزعيم الشاب «مصطفى كامل» بعد سنوات من هزيمة الثورة العرابية واحتلال مصر عام (١٨٨٢).. وثورة يناير بدورها بنت عصرها، عصر ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة، وهو عصر أفضت وسائله إلى اعتقاد راسخ لدى الأجيال الجديدة بأن مصر تستحق نظاما أفضل، وهى الأجيال ذاتها التى تقدمت مشهد الثورة وأسبغت عليه مظهرا حديثا أبهر العالم.

 

الحداثة بوسائلها وأفكارها والخيال الجديد فيها رافقتها صلابة لا مثيل لها فى التاريخ الاحتجاجى المصرى. مواجهة موجات التقتيل والقنص بالصدور العارية، والتقدم إلى الشهادة بقلوب مطمئنة أن المستقبل سوف يكون مختلفا، وأن هذا هو الثمن المستحق لمواطن حر فى وطن حر. التجارب الكبرى تعترضها إخفاقاتها، والقدرة على تجاوزها مسألة مصير.

 

انتخابات الرئاسة ليست نهاية المطاف، والمرحلة الانتقالية الثانية تستدعى سد الفجوات بين الشعب وشبابه، فالأغلبية الساحقة مع الثورة ولكنها تختلف مع بعض وسائلها أو تلخيصها فى رمزية «التحرير».

 

فى ثورة (١٩) برزت شخصية «سعد زغلول»، الذى تختلف القراءات التاريخية حول دوره، تمكن بقدراته السياسية والخطابية أن يعبر عنها وأن يكون رمزها الأكبر، وهو ما عجزت أن تبلوره ثورة يناير حتى الآن، فهى ثورة بلا قيادة أو حزب، ويستحيل أن تمضى هكذا فى الفترة الانتقالية الثانية، فالوسائل لابد أن تراجع بعناية والأهداف قبلها لابد أن تحدد بوضوح.

 

لا يناير أول التاريخ.. ولا الانتخابات الرئاسية كلمة النهاية. للتاريخ كلمة أخرى.. ودرس المائة عام حاضر وملهم.

 

عندما أخفقت ثورة (١٩) فى أن تحقق هدفيها الرئيسيين : الاستقلال والدستور، فالأول أُجهض عمليا والثانى جرى الانقلاب عليه، بدأت مصر تنتفض من جديد.

 

فى عام (١٩٣٥) خرجت مظاهرات حاشدة تحتج على تصريح بريطانى بأن مصر لا يصلح لها دستور (١٩٢٣) ولا دستور (١٩٣٠). فى هذه المظاهرات تواصل عطاء الدم المصرى. وفى عام (١٩٤٦) خرجت مظاهرات حاشدة أخرى من أجل مطلب الاستقلال أفضت إلى شهداء جدد من بينهم (٢٣) شهيدا فى ميدان «الإسماعيلية»، وهو ذاته الميدان المعروف الآن باسم «التحرير»، وأصيب فى هذه الموقعة (١٢١) جريحا. بعد أيام فى الإسكندرية سقط (٢٨) شهيدا و(٣٤٢) جريحا.. المدينة ذاتها قدمت شهداء آخرين فى ثورة يناير.

 

كانت التضحيات الجديدة فى عام (١٩٤٦) إيذانا بميلاد جيل جديد، وهو واحد من أهم الأجيال فى تاريخ مصر المعاصر، حمل السلاح فى منطقة قناة السويس ضد قوات الاحتلال، ساهم فى تطوير الخريطة الفكرية والسياسية وقام بثورة جديدة فى يوليو( ١٩٥٢) كان فى طليعتها هذه المرة تنظيم الضباط الأحرار، وهى واحدة من اعظم الثورات وأبعدها تأثيرا فى العصور الحديثة.

 

ثورة يوليو ، شأن الثورات الأخرى، بنت عصرها. فقد تلت الحرب العالمية الثانية بنتائجها التى أفضت إلى خرائط دولية جديدة وبزوغ حركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث. لا ثورة خارج التاريخ ولا ثورة تولد من فراغ. قادت حركات التحرر الوطنى فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقامت بأوسع حركة تغيير اجتماعى فى التاريخ المصرى كله، وبرز الدور الإقليمى لمصر فى عالمها العربى، أصابت وأخطأت، ولكن إنجازاتها كانت ظاهرة ولا مثيل لها فى قضيتى الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية، خذل نظامها السياسى الأحلام الكبرى التى تبنتها، وجرى الانقضاض عليها من «كعب أخيل» على ما تقول الأسطورة الإغريقية، من نقطة الضعف عند البطل التراجيدى.

 

فى ثورة (١٩) كانت نقطة الضعف أن الدستور ــ إنجازها الأكبر ــ عد «منحة من الملك» لا استحقاقا للشعب الذى دفع فواتير الدم، وهكذا جرى التلاعب بالدستور ودخلت مصر فى متاهات التفاوض العبثى لسنوات طويلة تالية. وفى ثورة (٥٢) كانت نقطة الضعف الرئيسية أن نظامها السياسى قصر عن أن يستوعب القوى الجديدة فى المجتمع التى أيدتها، وفى ثورة يناير تلخصت أزمتها فى غياب قيادتها.

 

ثورة يناير تبنت بعض أهداف يوليو فى العدالة الاجتماعية، لكنها لم تحدد ما تقصد، وركزت على قضية الديمقراطية، وهذه تعالج  القصور الرئيسى فى ثورة يوليو.

 

لا ثورة بلا أخطاء وخطايا. حدث ذلك فى ثورتين كبيرتين لخصهما فى التاريخ على التوالى «سعد زغلول» و«جمال عبد الناصر». الثورتان انتكستا لأسباب مختلفة، ولكن الحركة الوطنية المصرية فى الحالتين استمرت وصححت وتعلمت من الدروس، وهذا ما يجب أن تحتذيه الأجيال الجديدة، فالمستقبل أمامها، والكلمة الحاسمة عندها.. فرصة التصحيح ماثلة، والثورات تنتكس وتنهض، تتراجع وتتقدم، وهذه الثورة بالذات قد تمتد معاناتها لسنوات أخرى قادمة. المعاناة فيها أمل والأمل أجدى من اليأس.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved