مهمة رئيسية للمدينة العربية

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 18 يونيو 2015 - 10:40 ص بتوقيت القاهرة

منذ نحو عشرين سنة تناول المفكر المغربى عبدالله العروى موضوع موانع نشأة الرأسمالية فى المجتمعات الإسلامية. فإذا كان نشوء الرأسمالية فى الغرب الأوروبى قد ارتبط بنشوء المدن الحرة المستقلة القوية كمدن البندقية وفلورنسا فى ايطاليا، كما يجمع الكثيرون من الباحثين، فلماذا لم تنشأ الرأسمالية فى العالم الإسلامى مع أن الإسلام نشأ فى المدن وحيثما انتشر مصر الأمصار؟

كإجابة على هذا السؤال يشير عبدالله العروى إلى دراسات قام بها بعض علماء الاجتماع فى الغرب تظهر أن السبب يكمن فى أن تلك المدن فى الغرب لم تكن آنذاك مراكز لسلطة الحكم الإقطاعية، وبالتالى ظلت بعيدة عن قبضة سلطة الحكام، بينما أن المدينة الإسلامية كانت باستمرار قاعدة الملك، وبالتالى تحت قبضة الحاكم وما يفعل بأحوالها.

بسبب تمركز السلطة فى المدينة الإسلامية ظهرت ما يسميها العروى ظاهرة الاحتكار للاختصاصات متمثلة فى أن صاحب السلطة كان هو فى نفس الوقت أميرا وتاجرا، حاكما وحكما، متهما وقاضيا. ويخلص العروى إلى الاستنتاج بأن تمركز كل الاختصاصات، الحكم والتجارة والقضاء والأمن وغيرها، فى يد الحاكم منعت قيام النظام الرأسمالى الذى يتطلب تواجد تقسيم العمل والاختصاصات والسلطات.

***

تلك استنتاجات جديرة بالتمعُن فيها. فهى تفسير، على الأقل جزئى، لبقاء الاقتصاد العربى كاقتصاد ريعى متخلف غير قادر على فكٍ أساره والانطلاق نحو آفاق الاقتصاد الإنتاجى – المعرفى الحديث. والسبب هو أن صاحب السلطة لا يزال يمارس تركيز الاختصاصات فى نفسه ويحتكرها، فهو لا يزال، فى كل مدن العرب تقريبا، الحاكم ورجل الأعمال، المتهم والقاضى، فى إحدى يديه سلطة السياسة وفى الأخرى سلطة المال والثروات الريعية، يصنع الحرب كما يبنى السلام.

وذلك يطرح السؤال التالى :

إذا كانت نفس الظاهرة التى درسها علماء الاجتماع فى تاريخ المدن الإسلامية لا تزال معنا فى حاضر مدن العرب، فهل هناك أمل فى أن توجد المدينة العربية القوية الحرة المستقلة القادرة على زحزحة الاقتصاد الريعى الزبونى المستحوذ، عليه من قبل قلة صغيرة، ليحل محله اقتصاد عصرى إنتاجى – معرفى فى حقول الصناعة والزراعة والتكنولوجيا وغيرها؟ ومن ثم اقتصاد هو ملك المجتمع بأسره وليس ملك صاحب السلطة؟

ولما كانت نفس الظاهرة وإن بنسب متفاوتة، متجذرة فى مدن الممالك والجمهوريات والمشيخات، وأن نوع النظام السياسى ومسمياته لم تعمل أى فرق ولا أى ضبط وتنظيم، فإننا نحن أمام ظاهرة عربية عامة بامتياز.

لكن، لنكن حذرين بالنسبة لنقطتين اساسيتين: الأولى هى أن غياب سلطة الحكم التى تمارس احتكار التخصصات التى وصفنا تفاصيلها سابقا لن يكفى وحده ليجعل المدينة العربية قادرة على توليد اقتصاد غير ريعى متخلف. المدينة العربية ستحتاج أيضا لأن تؤدى دورها الكامل كحاضنة للعلم والبحث ووسائل الإتصال الالكترونى والتطويرالتكنولوجى لتساهم فى بناء اقتصاد انتاجى – معرفى عصرى .

النقطة الثانية تتعلق بمدى ديمقراطية ذلك الاقتصاد من حيث عدالة توزيع الثروة وبناء دولة الرعاية الاجتماعية، أى أننا لا نتحدث هنا عن الانتقال من نظام ريعى متخلف إلى نظام رأسمالى نيولبرالى عولمى متوحش وجائر.

***

وفى النهاية فإن وجود نظام ديمقراطى سياسى شرعى عادل، ووجود مجتمع مدنى نشط مستقل وفاعل، هما الضمانة الوحيدة لمنع شطط النظام الاقتصادى المراد بناؤه.

لقد أنتجت المدينة الأوروبية القوية المستقلة الحرة نظاما اقتصاديا رأسماليا كان أحد أهم الأسس التى قامت عليها الحداثة الغربية. لكن مع الوقت تشوهت الكثير من الأسس والشعارات والقيم التى قامت عليها تلك الحداثة. وما صعود مدارس ما بعد الحداثة فى المجتمعات الغربية إلا رد فعل لتلك التشوهات ومحاولة يائسة لتصحيحها.

بالنسبة للمدينة العربية، التى نرجو أن تصبح هى الأخرى قوية وحرة ومستقلة، فإن الأمل أن تساهم فى بناء اقتصاد صالح لأن يكون أحد أهم الأسس التى ستقوم عليها الحداثة الذاتية العربية. قد تأخذ حداثتنا من حداثات الآخرين وتتفاعل معها، وقد تتعلم من أخطائها وفواجعها، ولكن من حقها، بل ومن واجبها، أن تكون حداثة ذاتية تاريخا نية نابعة من واقع وحاجات وتطلعات وجهود الأمة العربية.

لقد أثبتت المدينة العربية فى بدايات أحداث الربيع العربى أنها قادرة على نفض غبار الاستكانة والخمول فى سبيل شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. مهماتها لم تنته بعد. أحدها أن تناضل من أجل أن تكون قوية مستقلة لتساهم فى بناء اقتصاد غير ريعى وتقدمى عصرى ينعش جسد الحداثة العربية المنهك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved