بريطانيا.. داخل الاتحاد الأوروبى أو خارجه

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 18 يونيو 2016 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

العالم العربى وأوروبا جاران. تدفق اللاجئين السوريين على القارة الأوروبية، بعد أن فاضت بهم دول المنطقة المتاخمة لسوريا، بيان على ذلك يضاف إلى تيارات الهجرة التى درجت على التوجه إليها. والاتحاد الأوروبى الذى يشمل جل الدول الأوروبية هو الشريك التجارى الأول لنا ومصدر رئيسى للاستثمار والتكنولوجيا الضروريين لاقتصادنا.

كل ما يطرأ على الاتحاد الأوروبى يعنينا، وعلى أية حال، كل ما يجرى فى العالم ينبغى أن يهمنا خاصة عندما يتعلق بالقوى الكبرى فيه، تلك تحدد الجانب الأكبر من قواعد التعامل والتعاون فى النظام الدولى، سواء كان لهذا الوزن النسبى ما يبرره أو لم يكن. أيا كان موقف المستهزئين بالنظام الدولى فإننا نعيش فيه واحترام قواعده هو من احترامنا لأنفسنا.


بريطانيا والاتحاد الأوروبى يتعرضان لأزمة عميقة الجذور واسعة التشعبات فى الوقت الحالى. فى الثالث والعشرين من يونيو يتوجه البريطانيون إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم فى استفتاء على بقاء بريطانيا فى داخل الاتحاد أو الخروج منه. نستعرض هنا مستويات ثلاثة للمواقف من مسألة الخروج أو البقاء، الأولان منها يتعلقان بالجدل العام الحالى فى بريطانيا، والثالث بالنقاش بين المراقبين والمختصين فى بقية الدول الأعضاء فى الاتحاد.


يلاحظ أن جانبى الجدل العام فى بريطانيا ليسا حزبى المحافظين فى ناحية والعمال فى ناحية أخرى، بل أنه فى كلا الجانبين مزيج من المحافظين والعمال بنسب متفاوتة لكل منهما. البقاء فى الاتحاد أو الخروج منه خط يقطع الحزبين وإن كانت نسبة أنصار الخروج أكبر عند المحافظين، حزب رئيس الوزراء الذى دعا هو نفسه إلى التصويت بالبقاء. فى حزب العمال نسبة أنصار البقاء أعلى من نسبة المطالبين بالخروج، وأغلب زعماء الحزب يؤيدون البقاء وهم أخذوا يكثفون فى الأسابيع الأخيرة من تحركاتهم وخطاباتهم الداعية إلى البقاء فى الاتحاد، وهو ما أفضى إلى الوضع العجيب الذى أصبح فيه رئيس الوزراء المحافظ يعتمد على خصومه العمال فى إنجاح مبغاه بل وفى بقائه هو نفسه على قيد الحياة السياسية.


***


المستوى الأول للمواقف فى بريطانيا ينصب على مزايا الخروج من الاتحاد أو البقاء فيه. أهم المسائل التى يدور حولها الجدل هى الهجرة إلى بريطانيا ولكن الهجرة المقصودة ليست هجرة الهنود أو الباكستانيين أو الجامايكيين أو المصريين وإنما الهجرة من الدول الأخرى الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، وخاصة البولنديين، بالإضافة إلى غيرهم من مواطنى بلدان وسط وشرق أوروبا. فى نظر الداعين إلى الخروج من الاتحاد هؤلاء المهاجرون يغتصبون فرص العمل من البريطانيين الأحق بها منهم ويستغلون نظام الضمان الاجتماعى ونظام التأمين الصحى الوطنى ويثقلون على الخدمات العامة.

الداعون إلى البقاء فى الاتحاد الأوروبى يتعجبون ويشيرون إلى أنه على عكس هذه الادعاءات، فإن المهاجرين يمولون نظام الضمان الاجتماعى باشتراكاتهم ويسدون العجز فيه، والنظام الوطنى للتأمين الصحى ليس مستمرا بكفاءة إلا بفضل المهاجرين، فهو لا يمكن أن يعمل بدون الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات من المهاجرين، وليس خافيا على أحد العجز فى العاملين فى المهن الطبية على مستوى العالم أجمع.


الداعون إلى الخروج يريدون استرجاع «سيادة» المملكة المتحدة التى فقدتها لصالح موظفى بروكسل غير المنتخبين وغير المسئولين أمام أى «مؤسسة ديمقراطية» حتى يشرع ممثلو البريطانيين المنتخبين القوانين التى تنظم حياة البريطانيين.

أنصار البقاء يردون بأن ممثلى بريطانيا فى البرلمان الأوروبى وحكومة المملكة المتحدة يشتركون فى صياغة القوانين الأوروبية، وأن الجانب الأكبر من القوانين مازال مجلس العموم هو الذى يشرعه، ثم أن «السيادة المطلقة» وَهْم فى عالم اليوم المتشابك، ثم يضيف البعض بأن السيادة الحقيقية هى فى القدرة على التحرك المستند إلى الإمكانيات الذاتية.


الداعون إلى الخروج ينددون بالعبء المالى الذى يمثله تمويل ميزانية الاتحاد فيرد أنصار البقاء بأن المملكة المتحدة قد نجحت منذ سنوات عديدة فى تخفيض مساهمتها فى الميزانية بل ويشددون على أن المملكة المتحدة تتلقى من ميزانية الاتحاد أكثر مما تدفع لها، فهى مثلا تساهم بـ11% من ميزانية البحث العلمى بينما تستفيد بـ17% من موارد هذه الميزانية، ويضيفون أنه بدون موارد الاتحاد الأوروبى سيتلقى البحث العالمى ضربة موجعة.


حقوق العمال وحمايتها موضوع من الموضوعات المهمة فى الجدل العام. أنصار البقاء يقولون بأنها ستكون مهددة إذ إن الاقتصاد البريطانى سينكمش نتيجة للخروج وستلجأ الحكومة وأصحاب العمل إلى تفكيك حماية العمال بدعوى إطلاق فرص النمو أمام الاقتصاد، فيجيب الداعون إلى الخروج بأنه لا داعى للقلق مطلقا فالمملكة المتحدة كانت سباقة إلى حماية العمال بقوانين عديدة من قبل أن تنضم إلى عملية التكامل الأوروبى، بل وقبل أن تعتمد هذه الحماية الدول المؤسسة لها، وهو ما لا يجانبهم الصواب فيه.


***


المستوى الثانى للمواقف من مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبى أو البقاء فيه هو ذلك الخاص بموقع بريطانيا فى العالم. إن كان الاتحاد سوقا واسعة فإن الداعين للخروج منه يرون فى العالم بالصين والهند ودول الكومنولث والشعوب المتحدثة بالإنجليزية وغيرها سوقا أوسع. بالنسبة إليهم، الاتحاد الأوروبى قيد على بريطانيا التى أمامها العالم الفسيح تتحرك فيه وتلعب دورها المكتوب لها كقوة عالمية.

هذه أوهام قومية لا يسندها الواقع الحالى، فلا الكومنولث كتلة اقتصادية موحدة ويعتد بها، كما أنه لا طاقة لبريطانيا بأن تتعامل وحدها مع الصين متعاظمة القوة، والشعوب المتحدثة بالإنجليزية قد تفرقت بها السبل. هذا خلاف قديم، يذكر بذلك من عاشوا جدل الستينيات من القرن العشرين، منذ خمسين عاما بالكاد، أو من درسوه.


بعد عقد من التراجع وبعد الاندحار فى العدوان الثلاثى على مصر، أو كما يسمونه حرب السويس، فى سنة 1960 طلب رئيس وزراء بريطانيا آنذاك هارولد ماكميلان من مستشاريه دراسة عن المستقبل وموقع بريطانيا بعد عشر سنوات. الدراسة التى بقيت سرية حينئذ كشفت عن أن التدهور سيستمر وأن علاج ذلك يكمن فى توثيق العلاقة الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة، ولكن مع موازنة هذه العلاقة بالتحرك فى القارة الأوروبية والاشتراك فى عملية التكامل الأوروبى التى كانت بشائرها قد بدأت فى الظهور.

هذا كان أساس التقدم بطلب الانضمام إلى ما كان عندئذ الجماعة الاقتصادية الأوروبية.


موقف ماكميلان شاركه فيه زعماء محافظون عدة من إدوارد هيث، الذى تم الانضمام فى عهده فى سنة 1973 إلى نفس مارجريت تاتشر بل وإلى ديفيد كاميرون حاليا. يلفت النظر أن هذا الأخير يختلف عن أسلافه فى شىء له أهميته، وهو دعوته للاستفتاء على بقاء بريطانيا فى الاتحاد أو خروجها منه، فالاستفتاء الذى أجرى من قبل فى بريطانيا كان بشأن نفس الموضوع ولكن الداعى إليه كان رئيس وزراء عماليا هو هارولد ويلسون فى سنة 1975.

أما المحافظون فهم يتمسكون بالمناقشة والقرار البرلمانيين ويرون فى الاستفتاءات، كما قالت تاتشر مقتبسة من رئيس وزراء عمالى فى الأربعينيات من القرن العشرين هو كليمنت آتلى، «سبيل الدكتاتوريين والديماجوجيين»، وهذا رأى ليس غريبا على علم السياسة الذى ينظر بتوجس إلى كل علاقة مباشرة يريد الحكام أن يقيموها مع المحكومين من فوق رءوس التنظيمات المجتمعية الوسيطة باعتبار أن الجماهير يمكن خداعها بمعسول الكلام أو بالأسئلة المبهمة أو بتلك الموحية بإجابات بعينها. أنصار البقاء يقولون إنه لم يطرأ تغير على عناصر قوة بريطانيا منذ ذلك الحين وأنه إذا كان لبريطانيا أن تلعب دورا فى العالم فإنها تقوى بالاتحاد الأوروبى الذى يعينها على الاضطلاع به.


العنف اللفظى فى الجدل العام بلغ مستوى غير مسبوق ولا معهود فى بريطانيا، بل لقد تحول إلى عنف دموى منذ أيام باغتيال عضوة عمالية فى مجلس العموم كانت نشطة فى الدعوة إلى البقاء فى الاتحاد.


***


المستوى الثالث هو النقاش العام فى أوروبا بشأن احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد. فى أوروبا عملية التكامل الأوروبى هى عملية من أجل السلام فى القارة قبل كل شىء آخر. خروج بريطانيا قد يجلب وراءه خروجا متتابعا لدول أخرى، قد يكون أولها اليونان.

الحريصون على بقاء بريطانيا يقولون بأنه فى غيبتها ستزداد سيطرة ألمانيا على الاتحاد فترتفع معها المشاعر المناهضة لها ويختل التوازن فى القارة الأوروبية. فى انفراط عقد التكامل الأوروبى عودة إلى التواجه بين القوميات واتجاهات التعصب القومى ورجوع إلى بنية الماضى الدموى العنيف. أكبر نجاح للاتحاد الأوروبى هو أنه دفن عداوات الماضى وأقام الأمن ومكن من الرخاء.


إن كانت كل مستويات النقاش تعنينا فإن هذا المستوى الثالث يهمنا بشكل خاص. كل ما يحدث فى أوروبا يؤثر فينا ويصل إلينا. ألم تبلغ تداعيات الحرب العالمية الأولى منطقتنا ومعارك الثانية أراضينا بل وأبواب الإسكندرية، عاصمتنا الثانية؟


فلنكن مع الآملين بأن يسود العقل فى كل مكان، فى نواحينا ولدى غيرنا، خاصة إن كانوا جيرانا لنا.

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved