روح الفريق

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 18 يونيو 2016 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

سير العلماء الذين تكلمنا عنهم حتى الآن والذين سنتكلم عنهم في المستقبل إن شاء الله قد تعطى انطباعا أن التقدم العلمي يحدث عن طريق أفراد عباقرة استفادوا من علوم من سبقهم ليدفعوا بالعلم خطوة للأمام وأن كل واحد من هؤلاء الأشخاص يعمل وحده ويقدح زناد فكره حتى يحل المعضلة العلمية التي أمامه، هذا كان صحيحا إلى حد ما حتى منتصف القرن العشرين، وإن كان العلماء حتى في ذلك الوقت يتقابلون في مؤتمرات أو جلسات مناقشة ويتبادلون الرسائل فيما بينهم حول الكثير من الأمور العلمية، ولكن في عصرنا الحديث تغير ذلك كله فالعلم أصبح أكثر تعقيداً بكثير ويحتاج إمكانيات بشرية ومادية تفوق إمكانيات فرد واحد وهذا يقودنا إلى واحد من أهم الموضوعات في عصرنا الحديث في مجال البحث العلمي (الحقيقة في أي مجال!): روح الفريق!

أهمية وجود فريق علمي ليست فقط لوجود الكثير من العمل الذي يستلزم أياد كثيرة لإنجازه في وقت مناسب بل له أهمية أكبر من ذلك بمراحل: إيجاد نظرة أكثر عمقا للمشكلة وحلول أكثر ابتكارا، السؤال هنا: لماذا وجود فريق يؤدى إلى نتائج أفضل من فرد واحد؟ عندما تحاول حل مشكلة معينة يجب أن تنظر لها من كل جوانبها وكل شخص منا حسب ثقافته وعمق تفكيره وشخصيته قد يرى جانب واحد منها أو عدة جوانب ولكن من النادر جدا خصوصا في المشكلات العلمية الحالية شديدة التعقيد أن يستطيع شخص واحد أن يلم بكل جوانب الموضوع، ونفس الشيء في إيجاد حلول، لذلك نحتاج فريق.

هناك عدة عوامل تحدد مدى نجاح أي فريق علمي بالإضافة طبعا إلى براعة كل فرد منه في تخصصه، أولا يجب أن يكون الفريق مكون من ثقافات مختلفة وهذه إحدى الأسباب في قوة الكثير من الفرق العلمية في أمريكا حيث تجد أن أغلب الباحثين من دول وثقافات مختلفة، ولن أكون مبالغا لو قلت أن هذه الفرق البحثية هي أحد أهم أسباب قوة أمريكا، والكثير من دول العالم بدأت تعى أهمية الفرق البحثية متعددة الثقافات، الثقافات المختلفة تجعل كل شخص ينظر للمشكلة من منظور مختلف وبالتالى يزيد احتمال أن يلم الفريق بكافة جوانب المشكلة والحلول المبتكرة لها.

العامل الثانى المهم لنجاح الفريق العلمى وهو مرتبط إلى حد ما بالعامل الأول هو وجود نسب من الرجال والنساء في الفريق فلكل منهم طريقة تفكيره وهذا يثري تحليل المشكلة والبحث عن الحلول.

بالإضافة إلى ذلك يجب ألا يكون لأحد أعضاء الفريق سلطة على الأعضاء الآخرين وإلا أدى ذلك إلى تراجع بعضهم عن إبداء رأيه.

بالإضافة إلى كل ما سبق لابد طبعا من طرح أسئلة دقيقة جديدا وتجميع الحلول المقترحة وتفنيدها وإدارة كل ذلك بطريقة علمية (علوم الإدارة تطبق أيضا على الفرق البحثية) ولكن هذه موضوعات أخرى قد نتحدث عنها في مقالات أخرى.

و أهمية الفريق العلمي متعدد الثقافات هناك عدة تجارب تتجاوز الفرق العلمية في الجامعات أو مراكز الأبحاث، هناك مثلا مشاريع (Citizen Science) أو "مواطن العلم" حيث يحاول المواطنون الهواة أو غير المتخصصين حل مشكلة صغيرة تُعطى لهم عن طريق موقع على الإنترنت وهناك فريق علمي يجمع هذه الحلول الصغيرة ليصنع منها حل لمشكلة أكبر وأعمق.

وهناك كتاب مهم اسمه (The Wisdom of Crowds) أو "حكمة الجماهير" هو كتاب نشر في العام 2005 من تأليف James Surowiecki ، الكتاب ببساطة يبرز فكرة أن في الظروف المواتية ذكاء المجموع (حتى وإن كان من الهواة أو غير المتخصصين) أفضل دائما من ذكاء الفرد، و يدلل على ذلك بالكثير من الأحداث الحقيقية (مثل حادثة انفجار مكوك الفضاء Challenger) ويناقش أقوال العلماء في هذه الظاهرة، ويحاول الكتاب الإجابة عن أسئلة مثل: ما هي هذه الظروف المواتية؟ هل يمكن استخدام حكمة الجماهير مع أية مشكلة؟ هل هناك صفات معينة في من نسألهم؟ كيف يمكن ضم جميع الإجابات لنصل إلى إجابة واحدة تكون أفضل من كل الإجابات؟

ماذا عن الأستاذ الجامعي وطلبته؟ الأستاذ الجامعي له سلطة على طلاب البحث عنده وهذا ضد العامل الثالث الذي ذكرناه فيما يجب أن يتوفر في الفريق العلمي، ولذلك يجب على الأستاذ الجامعي الذي يرغب في تكوين فريق علمي أن يعامل طلبته كأصدقاء حتى يتسنى لهم التفكير النقدي بحرية بل ويجب على الأستاذ الذي يشرف على عدة طلاب أن يجتمع معهم جميعا على فترات متقاربهم حتى ينمي عندهم روح الفريق ويجعل من كل عضو في الفريق يساعد الأعضاء الآخرين بالنقد والحلول المقترحة، وطبعا إذا كانت المشاكل العلمية التي يحاول كل طالب في الفريق حلها مرتبطة ببعضها يكون هذا أفضل حيث يرى كل طالب أين تقع مشكلته البحثية في الصورة الكبيرة، هذا لا يتأتى إلا عندما يكون الأستاذ يملك أجندة بحثية متماسكة وليس مجرد مشكلات علمية متناثرة، وأفضل شيء طبعا أن يكون هناك فريق علمي كبير يضم عدة أساتذة وطلبتهم.. النتائج ستكون أقوى وأفضل بل ومبهرة إذا أحسن الأساتذة إدارة الفريق الكبير دون أن يحرص أي واحد منهم على أن يبرز هو على حساب الآخرين.

بقي أن نقول أن العلم يتقدم في عصرنا هذا بروح الفريق، وليس أدل على ذلك من الفريق البحثي في هارفارد والذي كان يدرس فيروس الإيبولا، هذا الفريق ولشعوره بأهمية إيجاد حل سريع كان يضع نتائجه أول بأول على الإنترنت حتى يتسنى لأي فريق في العالم التفكير وإيجاد حل حتى وإن كان قبلهم، هذا الفريق فضل أن يحاول إنقاذ المرضى على النشر. ولكن مع ذلك نشر هذا الفريق من هارفارد بقيادة الدكتورة بارديس سابيتي (Pardis Sabeti) بحثهم بعد ذلك في مجلة (Science) ويوجد على هذا البحث خمسة أسماء توفوا بفيروس الإيبولا. ويوجد مقال جميل يحكي قصة هذا البحث في مجلة النيويوركر (New Yorker) عدد 27 أكتوبر 2014، من تأليف Richard Preston بعنوان (The Ebola Wars) أو "حروب الإيبولا" (ملحوظة صغيرة: اقرأ أي شيء يكتبه Richard Preston فهو كاتب بارع للغاية في الأمور العلمية بالرغم من حصوله على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي!!).

أرجو أن أكون قد أقنعتك بأهمية روح الفريق في العلم وفي غير العلم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved