البؤساء الجدد

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الإثنين 18 يونيو 2018 - 11:25 ص بتوقيت القاهرة

ترى ما الذي كان سيكتبه طه حسين إذا أراد أن يصف الأوضاع الاجتماعية في مصر حاليا من خلال حكايات البسطاء، كما فعل في مؤلفه "المعذبون في الأرض"، حين تعرض للفترة التي سبقت ثورة يوليو 1952 وتحدث عن الطبقية والعدالة الاجتماعية وقتها، على غرار ما فعل أديب آخر وهو فيكتورهوجو في رائعته "البؤساء" التي رسمت ملامح فرنسا في القرن التاسع عشر؟ بالطبع في ظل الغلاء الفاحش ووطأة الحياة ومعدلات التضخم المستمر نقابل ناس تتصرف على أنهم من طينة غير طينة البشر وآخرين يبتلعون همومهم الصغيرة وينامون كمدا. المطلوب من هؤلاء أن يتحملون الفريق الأول من المتربحين وأن يعيشون فيتحولون أحيانا إلى أبطال مجهولين من نمط بطل رواية "البؤساء"- جان فالجون- الذي دخل السجن لأنه سرق رغيف خبز لإطعام أولاد أخته. تفهم من كلام "البؤساء الجدد" في مصر الذين تقابلهم كل يوم، وقد تكون واحدا منهم، معنى أن تكون مثل عتبة الباب، تدوسك الأقدام ذهابا وإيابا حتى تهترىء دون أن يلتفت أحد لمعاناتك التي صارت ضمن الروتين، معنى أن تشعر أنه لا فرق بينك وبين المروحة المعدنية التي تلف وتدور في الهواء، وقد تراكم عليها الغبار أعلى السقف، وأصبح صريرها ضرورة لقيظ الصيف، لكن لا أحد يتوقف عنده، معنى أن تتوارى عن الأنظار وتكف عن التماس الأعذار لأنك تعرف من داخلك أنه لا فائدة ترجى.
***
مع الموجة الأخيرة من زيادات الأسعار حاصرتني صورة جان فالجون. تذكرت كيف صارع مصيره في الرواية وكيف كان يحاول طوال الوقت أن يكون مواطنا صالحا وأن يبيض صفحته وأن يتحول أحيانا إلى منقذ يساعد من كانوا في نفس وضعه حتى لا يصلوا إلى الحضيض. يسرق لكنك تحبه وتتعاطف معه وتجد له مبررا، بل وشيئا من النبل. هو يريد أن يعيش وسط شعب "على الحديدة". صار بطلا رغم أنفه. لم يختر، بل اختارته الظروف. وفي ظل غياب العدالة الاجتماعية اندفع من حوله البؤساء كحبات اللؤلؤ المنثور. نفذ حكم بالسجن لمدة تسعة عشر عاما لأنه سرق رغيف خبز، لكن عند خروجه تسامح وراهن على جانب الخير في نفسه، على جانب البطولة داخل كل منا، فحقق الكثير وضيع الكثير وضيعته الأوهام أحيانا. بطل درامي من أبطال الزمن الصعب الذي لازال الكثيرون يرون أنفسهم فيه ونحن في القرن الواحد والعشرين.
***
صدرت رواية "البؤساء" لفيكتور هوجو في عام 1862 أي كانت هذه الأوضاع الاجتماعية التي وصفها الكاتب بعد سنوات وسنوات من الثورة الفرنسية التي اندلعت في يوليو 1789، فكان لابد من تصحيح المسار، كان لابد من التنديد بالبؤس والغبن المتداول من جيل إلى جيل، وكأنه ميراث عائلي. و بالفعل قام هوجو بذلك فصار من أعظم كتاب العالم وخلد ذكراه وذكرى أبطاله من البؤساء الذين اكتسبوا حضورا عابرا للقارات والمحيطات والأزمنة. وإذا كان بطله المحوري- جان فالجون- استلهم من شخصية حقيقية باسم بيير موران، تم بالفعل الحكم عليه بالسجن عام 1801 لأنه سرق رغيف خبز، فقد صار عنوانا للمعذبين في الأرض من كل عصر، عنوانا لمن يرددون في سرهم: " ما أكثر الأعياد، وما أقل السعداء"!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved