رسائل الشيخ جرّاح

جورج فهمي
جورج فهمي

آخر تحديث: الجمعة 18 يونيو 2021 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

تنتهج إسرائيل سياسة تهدف إلى تهجير فلسطينيى/ات مدينة القدس من أحيائهم، واستبدالهم بمستوطنات ومستوطنين إسرائيليين، بهدف تحجيم الوجود الفلسطينى فى المدينة مقابل زيادة الوجود اليهودى فيها. استهدفت إسرائيل فى إطار هذه السياسة مؤخرا أربع مناطق عربية، اثنتان فى حيّ الشيخ جرّاح، واثنتان فى سلوان فى جنوب مدينة القدس. بيد أن قاطنى حيّ الشيخ جرّاح المهدّدين بفقد منازلهم، ومعهم قطاعات واسعة من فلسطينيى القدس، رفضوا تلك الإجراءات الإسرائيلية، وقرّروا مقاومتها. ازدادت حدّة المواجهات، ووصلت إلى المسجد الأقصى الذى هاجمته قوات الاحتلال الإسرائيلى لقمع المحتجّين، ما خلّف ردود فعل واسعة فى العالمَين العربى والإسلامى. وانخرطت حركة حماس من جانبها فى الأزمة، حيث قامت بإطلاق عدد من الصواريخ على المدن الإسرائيلية. فردّت إسرائيل بشنّ حرب على قطاع غزة استمرت لمدة 11 يوما، قبل أن ترعى مصر اتفاقا لوقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. انتهت الحرب على غزة، لكن أزمة القدس لا تزال مستمرة، إذ لا تزال إسرائيل تسعى إلى الهيمنة ديموغرافيا على المدينة بعد أن سيطرت عليها عسكريا. لكن ما بعد أزمة الشيخ جرّاح ليس كما قبلها. فثمة تغيّرات لا تخطئها العين صاحبت هذه الأزمة الأخيرة، يمكن إيجازها فى ثلاث رسائل رئيسية.

الرسالة الأولى.. عودة القضية الفلسطينية إلى الساحتين العربية والغربية

لطالما كانت القضية الفلسطينية حاضرة فى الشارع العربى وخارجه، إلا أن أهميتها تراجعت خلال السنوات الأخيرة. فمن جانب، دفعت التطورات السياسية فى المنطقة العربية خلال السنوات العشر الأخيرة، قطاعات واسعة من المجتمعات العربية إلى التركيز على قضاياها الداخلية، وإبداء اهتمام أقل بقضية فلسطين. ومن جانب آخر، دفع الانقسام الفلسطينى آخرين إلى إبداء خيبة أملهم فى القوى السياسية الفلسطينية، وقدرتها على تمثيل مصالح الشعب الفلسطينى. بيد أن أزمة الشيخ جرّاح وما تلاها من حرب إسرائيلية على غزة، أعادت قضية فلسطين إلى سابق مكانتها، وأثبتت أنها لا تزال من دون شك قضية رئيسية للشعوب العربية.

أما خارج العالم العربى، فقد كان للفيديوهات التى تداولها الناشطون الفلسطينيون لمحاولة المستوطنين اليهود الاستيلاء على المنازل فى الشيخ جرّاح، أثرٌ واسعٌ لدى الكثير من المجتمعات الأوروبية. وضاعفت من تأثير تلك الفيديوهات قدرةُ الناشطين الفلسطينيين على الحديث إلى وسائل الإعلام الغربية بشكل هادئ وواثق عن عدالة قضيتهم. كذلك خرجت التظاهرات الواسعة فى مدن أوروبية عدّة رافعةً أعلام فلسطين، ومندّدةً بالاحتلال الإسرائيلى. وتُقدَّر أعداد المتظاهرين الذين خرجوا مساندةً للقضية الفلسطينية فى لندن وحدها على سبيل المثال بأكثر من 180 ألفا.

صحيح أن سياسات الدول الغربية لا تزال على حالها فى تجاهلها للحقوق الفلسطينية، إلا أن الزخم الشعبى الغربى يمكن البناء عليه من أجل تغيير تلك السياسات. العملية طويلة وتراكمية بالتأكيد، لكنها ليست مستحيلة، وقد ظهرت بوادرها بالفعل. فقبل أسابيع قليلة من أزمة الشيخ جرّاح، نشرت منظمة حقوق الإنسان الأمريكية هيومن رايتس واتش تقريرا وصفت فيه السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين/ات بالأبارتهيد، أى سياسات الفصل العنصرى، وهى كلمة لها وقعها القوى فى المجتمعات الغربية، إذ مع ذكرها تقفز إلى الأذهان مباشرة صورة نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا الذى اضطّهد الأغلبية السوداء. كذلك ثمة تغيير فى مواقف بعض القوى السياسية الغربية، كما هى حال بعض الأصوات داخل الحزب الديمقراطى الأمريكى، الذى وصل إلى حدّ مطالبة إحدى عضوات الكونجرس بربط جزء من المساعدات الأمريكية لإسرائيل باحترامها لحقوق الإنسان، فى سابقة غير معتادة من السياسيات والسياسيين الأمريكيين.

الرسالة الثانية.. سقوط الحدود بين الشعب الفلسطينى داخل إسرائيل وخارجها

أثبت الحراك الواسع للفلسطينيين/ات داخل إسرائيل تضامنا مع فلسطينيي/ات القدس والفلسطينيين/ات تحت القصف فى غزة، أنه لا فارق بين الفلسطينيين/ات فى داخل إسرائيل وخارجها. يقول أحد ناشطى الداخل الإسرائيلى من الفلسطينيين: «لقد عدنا إلى نقطة 1947. فها نحن الفلسطينيون فى كل مدننا فى مواجهة المستوطنين اليهود كما كانت الحال مع قرار التقسيم فى العام 1947». أكّد قمع إسرائيل لتظاهرات مواطناتها ومواطنيها من الفلسطينيين النقطة نفسها، بأنه لا فارق فى معاملة دولة إسرائيل تجاه الفلسطينيين/ات داخل إسرائيل وخارجها. فطبقا للناشط الفلسطينى نفسه، «إن جواز السفر الإسرائيلى لا يعنى أيّ شيء، فالدولة تتعامل مع فلسطينيى الداخل كما تتعامل مع الفلسطينيين خارجها. نحن الأعداء بالنسبة إليهم بصرف النظر عن أوراق الهوية أو مكان إقامتنا». لقد وصل عدد المعتقلين من الفلسطينيين الذى يعيشون داخل إسرائيل حتى وقت كتابة هذه السطور إلى 1700 معتقل.

أرادت إسرائيل اختزال القضية الفلسطينية فى قطاع غزة، وغزة فى حماس وحدها، فإذا بأزمة الشيخ جرّاح تُسقِط تلك الحسابات كلّها، لتجد إسرائيل نفسها وجها لوجه مع القضية الفلسطينية فى غزة والضفة الغربية والقدس، ولكن أيضا فى يافا وحيفا واللد.

الرسالة الثالثة.. فشل صفقة القرن فى بناء سلام فى المنطقة

قدّمت إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب ما اعتبرته صفقة للقرن لإنهاء الصراع العربى الإسرائيلى فى يناير من العام الماضى. وفى هذا الإطار أعلن كل من الإمارات العربية والبحرين والسودان والمغرب تطبيع علاقته مع إسرائيل. قال رئيس الوزراء الإسرائيلى السابق بنيامين نتنياهو فى كلمته خلال الاحتفال بتوقيع اتفاق السلام مع الإمارات والبحرين فى البيت الأبيض فى سبتمبر الماضى، إن هذا الاتفاق ليس سلاما بين رؤساء لكنه سلام بين شعوب المنطقة. وها هى الأيام تثبت قبل أن تمضى 9 أشهر أن نتنياهو أساء قراءة توجّهات شعوب هذه المنطقة. لم تفلح صفقة القرن، وما صاحبها من اتفاقات للسلام مع دول عربية، فى منع اندلاع الأزمة فى الشيخ جرّاح، وما تلاها من حرب على غزة فحسب، بل لم تستطع حتى أن تقدم إطارا سياسيا لإنهائها. فلا نجحت صفقة القرن فى منع اندلاع الأزمة، ولا استطاعت إيجاد حلّ لها. وعادت مصر للعب الدور الرئيسى لإنهاء الصراع المسلح، والوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل.

رسائل الشيخ جرّاح الثلاث واضحة، وهى لا تخصّ إسرائيل وحدها، ولكن على الفصائل والسلطة الفلسطينية هى الأخرى حسن قراءتها. أعاد الشيخ جرّاح القضية الفلسطينية إلى الشارع العربى والغربى، وأسقطت حدود قرار التقسيم للعام 1947 بين الشعب الفلسطينى، فصار كتلة واحدة تتحرك من أجل حقوقه بصرف النظر عن أوراق هويته. أخيرا أسقط الشيخ جرّاح صفقة القرن التى ظنّ أصحابها أن السلام ممكن فى المنطقة من دون الشعب الفلسطينى. توفّر هذه الرسائل فرصا يمكن البناء عليها إذا ما أحسنت القوى الفلسطينية قراءتها، وأعادت ترتيب حساباتها من أجل بناء تحالفات جديدة فلسطينية ــ فلسطينية تتجاوز خطوط التقسيم، وإذا استطاعت استغلال لحظة التعاطف الدولى الواسع للضغط على القوى الغربية كى تغيّر سياستها تجاه القضية الفلسطينية، وكذلك إذا استطاعت طرح مقاربة سياسية بديلة لصفقة القرن التى أثبتت الأزمة الأخيرة فشلها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved