ذاكِـــــرَة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 18 يونيو 2021 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

لا أصادف زميلًا أو صديقةً أو أحدَ الأقرباءِ والقريبات؛ إلا وبرزت الشكوى مِن ضَعفٍ ينتاب الذاكرةَ فيُسقِط منها المعلومات ويبدد الأرقامَ والأسماءَ وأحيانًا الوجوه، وقد يتسبَّب في مواقف مُحرجة يتعذر التعاملُ معها.

•••

مِن الشاكين مَن يجد الأمرَ مَدعاة للهزل؛ فيسخر مما آلت إليه الحالُ، ويتحدث عن الكِبَر وهِرَم الجَسدِ والعقل وأعراضِ الشيخوخةِ المتكاثرة، وهناك مَن يجد الأمر مُزعجًا شديد الوطأة؛ فيحاول استدراكه وعلاجه بشتى الوسائلِ، ومَن يرى فيه نقيصةً تشي بالأفول القريبِ؛ فيسعى لإخفائه ومداراته عن أعينِ الآخرين ويُنكر حدوثه.

•••

أعرفُ مَن لحظ تراجع ذاكرته؛ فراح يداوم على ألعاب تتخذ من الأعداد وأحاجيها مادةً أساسية، وجعلَ يملأ مربعاتِ السودوكو وما يشبهها من مُعضلات رياضية، تتطلب التركيزَ وتستفز وظائفَ المُخ، وتنشط الذاكرةَ وتحفزها. أعرف أيضًا مَن تنفره محاولاتُ حلّ الألغاز ومَن لا يُحبذ أن يضع نفسَه مَوضِع تحدٍ، ومَن يُرهقه أن يفشلَ مرةً ومرَّات؛ فيطرق سبلًا أخرى منها على سبيل المثال الالتزام بنمطِ حياةٍ مُعتدل ونظامِ طعامٍ صِحيّ؛ خضرواتٍ وفواكه غنية بالفيتامينات، وزيوتٍ غير مُشبَعة، وأنواعٍ لا حصر لها مِن المأكولاتِ البحرية؛ لعلها تدفع خلايا الدماغ لاستعادةِ لياقتِها ومرونتها، وتحرض الذاكرةَ على تسجيل ما يسقط مِن ثقوبها.

•••

يتمتع بعضُ الأشخاصِ في المُقابل بذاكرةٍ صارمةٍ مُخيفة؛ لا ينسون حدثًا مهمًا بدا تافهًا، ولا تضيع منهم تفصيلةٌ وإن لاحت بسيطةً لا تسترعي الانتباه. في عائلتي سيدةٌ جميلةٌ تتذكَّر ما قال فلانٌ في اجتماع على إفطارِ رمضان قبل سنواتٍ عشر، وما ردَّت به فلانةٌ، ولونَ الرداءِ الذي زارتنا فيه وما واكب الزيارةَ مِن أحداثٍ وقعت في بلدان أخرى، وما تناول المدعوون فردًا فردًا مِن حلوى؛ أمام المُسلسل التلفزيونيّ الذي يتابعون. 

•••

تنتقي الذاكرةُ مَعلومةً وتغفِل أخرى أو تستبعدها بناءً على تقييمِ أهميتها، ومدى الاحتياج الآني والمستقبليّ إليها؛ لكنها تسجل بلا غربلةٍ عند بعض الناس. 

•••

الذاكرةُ أنواع؛ قد تطغى الفوتوجرافيةُ على ما عداها؛ فتحتفظُ بصورةٍ كاملةِ المَعالمِ والأركان، وتهمِل حديثًا مطولًا وكلماتٍ مَنطوقة، وربما تسجل صورةَ صفحةٍ مِن كتاب، وحين استدعاء الصورةِ؛ تظهر الأسطر والأحرفُ المَطبوعةُ بل ويمكن قراءتها. كثيرًا ما أصادف شخصًا أعرفه حقَّ المعرفة؛ أعرف ملامحَ وجهه وأميز نبرةَ صوته وأكاد أرى المكانَ الذي التقينا فيه مرةً ولو منذ أعوامٍ طوال؛ لكني أبحث عن الاسمِ فلا أعثر عليه. يمُر اللقاء بسلامٍ أغلبَ الأحيان، وأبقى في حال مِن الغيظِ والاستنفار؛ لكن هيهات أن أعثر على ضالتي. أنسى الموقف ثم إذا بالاسمِ وقد قفز فجأة أمامي بلا سببٍ، تراكمت عليه الصور والمشاهد ثم أفسحت مكانًا لظهوره وإن بعد حين. 

•••

قيل في قديم الزمنِ إن الأسماكَ لا تمتلك ذاكرةً وافيةً تسعفها، أو ربما لا تحتاج إليها في حياتِها الأقلَّ تعقيدًا من كائناتٍ أخرى. لديها فقط جهاز توجيه حسَّاس يقود مساراتِها ورحلاتِها المُنتظمة؛ لكنه لا يحذرها مِن خبرةٍ سابقةٍ ولا يبعدها عن طُعمٍ أو شبكة. على طرفِ النقيض يُقال إن للأفيال ذاكرةً مُميَّزة تحتفظ بمحتواها طويلًا ولا تُفلته. صندوقٌ مُتحرك يحوي خزينَ العمر المُمتد ويصنع منه تاريخًا. ما بين السمكةِ والفيل سلسلةٌ هائلةٌ من التطور لا تقتصر على الذاكرةِ وحدها.

•••

على كل حال؛ ثمَّة شعوبٌ تملك ذاكرةَ السمكة وأخرى تستعير ذاكرةَ الأفيال، بعضها يقاوم النسيان وإن كان مُعدًا مُدبرًا، والبعضُ الآخر يستسلم لمُحاولات تشتيت ذاكرته وصرفِها عن إتمام واجباتها وإلهائها؛ فيكرر الخطأ مرة تلو أخرى بلا وازع، ويندهش بالقدر ذاته في كل مرة مِن النتيجة؛ وكأنها ليست بمتوقعة. في الذاكرةِ الجَمعية مُتسع لكُل شاردة وواردة ومَوضع لكُل تفصيلة؛ أما عامل الحسم في التسجيل والحفظ، أو المحو والإسقاط؛ فهو حال الوعي. إن صحَّ الوعي وصحا وأدرك وميز وحكم؛ أنجزت الذاكرةُ عملَها على أفضل الوجوه.

•••

أسمع مَن يَصِف النسيانَ بأنه نعمةٌ؛ فالواقع مُر كالعلقم، والخسائر أعظم مِن القدرةِ على الاحتمال، والعجز عن الفعلِ قائمٌ مكين؛ فما الحاجة للتذكُّر وما فائدة الشعور بحجم الخيبةِ إن لم تكُن هناك وسيلةٌ للتغيير؟ عن نفسي أظن في التذكُّر والتدوين خطوةً أولى؛ لا يتسنى دونها اتخاذ بقية الخطوات. في الذاكرة ما جرى، وما صارت إليه الأمور، وفيها أيضًا ما يجب أن يكون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved