عيون البراءة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 18 يونيو 2022 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

فاكهة تحلم بها الأشجار وفلاحات ونخيل ودواب وبائعون يحملون ما لذ وطاب. اهتمام فائق بالتفاصيل يجعلنا نتساءل فى كل لحظة: كيف استطاعت الفنانة التلقائية التى نسجت هذه السجادة اليدوية الضخمة أن تسجل كل هذه اللقطات فى ذاكرتها وتجمعها فى قطعة فنية واحدة وتتخذ لها أبعادا مختلفة؟ السيدات اللائى يعرضن أعمالهن الرائعة فى جاليرى أوبونتو بالزمالك حتى يوم 21 يونيو وينتمين إلى مدرسة ويصا واصف للإبداع الفطرى بالحرانية يروين حكاياتهن اليومية من خلال مجموعة متميزة من المنسوجات القطنية والصوفية، لكن فى ذات الوقت يروين حكايات أسرة فريدة تعطى مثالا لما يجب أن تكون عليه النخب الثقافية والاجتماعية. تلخص دون سفسطة تعريفات هذه الأخيرة التى تتنوع وتتشعب وتختلف حولها آراء المتخصصين.
• • •
رمسيس ويصا واصف المعمارى الذى أنشأ هذه المدرسة فى مطلع خمسينيات القرن الماضى بمنزله وزوجته السيدة صوفى، بقرية الحرانية على أطراف القاهرة بالقرب من منطقة الأهرامات، جاء من عائلة استثنائية. والده المحامى الوفدى الشهير كان رئيسا لمجلس النواب حين اندلع خلاف دستورى بين الملك فؤاد ومصطفى النحاس باشا، أقال الأول الحكومة الوفدية وأصدر قرارا بتعطيل البرلمان وأمر بإغلاقه بالسلاسل وإطلاق النار على المتظاهرين. وجاء النحاس ومعه النواب واخترقوا الحصار وتقدم الصفوف ويصا واصف بصفته رئيسا للبرلمان وفتح الأبواب وعقد الجلسة كالمعتاد. وبعد أحداث متواترة عاد ليقف أمام المحاكم المختلطة يدافع عن الثوار والمظلومين حتى وفاته سنة 1931 وقد ترددت الإشاعات حول موته مسموما لمواقفه الوطنية ضد الملك والإنجليز.
كان الأب أيضا راعيا للفنون خاصة المثال محمود مختار وجيله، وقد أثر كل ذلك بالطبع على تكوين الابن الذى أراد تعلم النحت فى سن مبكرة ولاحقا قام بتصميم متحف مختار بالقاهرة، على ضفاف النيل، بالقرب من دار الأوبرا الحالية، حيث تشعر أنك فى أحد المعابد الفرعونية حين تتعامد أشعة الشمس لتضىء التماثيل بشكل طبيعى ومباشر.
• • •
حصل رمسيس ويصا واصف (1911ــ1974) على البكالوريا من مدرسة الليسيه الفرنسية، ثم سافر إلى باريس لدراسة الهندسة، وهناك حصل على دبلوم العمارة من مدرسة الفنون الجميلة عام 1935 ودبلوم النحت من أكاديمية جوليان فى العام نفسه، ثم عاد إلى القاهرة بعدها بسنة ليُدرس فى كلية الفنون الجميلة التى ترأس قسم العمارة فيها، ما بين 1965 و1969، وقد استقال للتفرغ إلى مشروعه الخاص.
استقر فى المنزل الذى أقامه بالحرانية وجعله مركزا للفنون يتتلمذ فيه على يديه عدد من أطفال القرية، على الأغلب ما بين 8 و12 سنة، يعلمهم القراءة والكتابة والأساسيات ويترك لهم حرية إبداع ما يحبون بواسطة النسيج، وهو فن قديم وله جذور فى الثقافة المصرية. كان يعتمد نظرية أن كل إنسان بالضرورة بداخله طاقة فنية وأن مسئوليته هى أن يساعد على إطلاق هذه المقدرة حتى لا تضمحل، وهو ما يشرحه فى الفيلم الذى يعرض بمدخل الجاليرى، موضحا أنه يفضل أن تكون أعمالهم مستمدة من الخيال والبيئة ولا تعتمد على النقل أو المحاكاة، مع احترام الفروقات الفردية فى التعلم والتى تختلف من شخص لآخر، وعدم الضغط على الطفل وتركه حرا لكى ينضج ويتعلم بسعادة.
• • •
هى نظرية المخزون التشكيلى الوراثى التى اعتمدها والد زوجته، حبيب جورجى (1892ــ1965)، صاحب مدرسة الفن والإبداع التلقائى عند الأطفال. هذا الأخير هو أيضا حكاية لا نظير لها، نسيج وحده. الأستاذ الذى تخرج فى كلية المعلمين وصار مدرسا للرياضيات، ترك تخصصه الأصلى بمجرد إعلان ناظر المدرسة التى كان يعمل فيها عن تأسيس قسم للفن، انضم إليه ثم أوفدته وزارة المعارف فى بعثة إلى إنجلترا وحصل على درجة الزمالة فى الفنون الجميلة عام 1923. وبعد عودته إلى مصر، اشتغل معلما للرسم فى المدارس الابتدائية، وتدرج فى السلم الوظيفى إلى أن أصبح مفتشا عاما، كما ساهم فى تأسيس العديد من الجمعيات الفنية، لكن أهم إنجازاته كانت تجربة الفن التلقائى لدى الأطفال المصريين التى استغرقت نحو 12 عاما، ما بين 1939 و1951، واستخلص منها نتائج غيرت مفاهيم ومناهج التربية الفنية. هذه التجربة هى بمثابة الأرضية التى قام عليها مركز ويصا واصف بالحرانية.
فى البداية جمع حبيب جورجى من حوله خمس فتيات وولد وهم فى سن صغيرة وأسكنهم معه فى منزله وتركهم يعبرون بتلقائية عن كل ما يخطر ببالهم، قبل أن يـتأثروا بالحياة المدنية، عزلهم عن المؤثرات التعليمية والحضارية ليستحضر الموروث الفنى الموجود بداخلهم. ظل ينفق على التجربة من ماله الخاص لمدة خمس سنوات، حتى بدأ بعض الأثرياء فى دعمه ماديا منذ عام 1943، كما شعرت الدولة بقيمة عمله وقدمت له الطابق الثانى من وكالة الغورى لكى ينضم إليه عدد أكبر. وقد عرضت أعمال الأطفال بالقاهرة ثم أقيم لهم معرضان فى باريس ولندن، بعد أن وصلت أصداء التجربة إلى مؤسسة اليونسكو.
• • •
لوحات السجاد التى نعيد اكتشافها فى جاليرى «أوبونتو»، وبعضها من المقتنيات الخاصة لمركز ويصا واصف، وبالتالى غير معروضة للبيع، تجعلنا نستحضر ذكرى كل هؤلاء ونحلم بتجديد النخب، بكتيبة صغيرة من المستنيرين الذين لديهم ما يقدمونه للآخرين، بعيدا عن مؤشرات السلطة والجاه. نتنهد بارتياح أمام المنسوجات البديعة التى نراها بشكل مختلف بحسب البعد أو القرب أو زاوية النظر. نكاد نشم رائحة الأشجار ونحن نتمعن فى التفاصيل: هذا رجل غاضب، وهذا عبوس، وتلك سيدة متشحة بالسواد لكن لديها أمل فى أن تبيع بضاعتها وتكسب قوتها، قط فى عينيه لمعة، آدم وحواء تائهان فى الدنيا الواسعة.. التفاصيل مبهرة والمخزون الإبداعى هائل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved