لجان الحقائق

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 18 يوليه 2015 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

ترى ألا يزال أحدكم يذكر لجنة تقصى حقائق 30 يونيو؟ دهمنى السؤال عقب قراءة انطباعات الأستاذ جميل مطر المنشورة فى هذا المكان الأسبوع قبل الماضى، تحت عنوان «الحقيقة تغتصب فى غيابها». باغتتنى المقالة وحثتنى على تفكير طويل استرجعت خلاله بعض ما نسيت. تذكرت اللجنة، ولجان أخرى تاهت وسط أحداث مُتراكمة، يكاد جديدها يزيح قديمها ويُسقِطه مِن الذاكرة، أو يُهيل عليه التراب، فلا يبقى منه شىءٌ ذو بال، ولو كان مُحاطا بعشرات الاستفهامات، والتساؤلات الظمأى لإجابات تخفف مِن غليل الصدور.

•••

منذ عام ونصف العام صدر قرار رئاسى بتشكيل لجنة تقصّى حقائق، كان مَنوطا بها البحث والتنقيب فى أحداث العنف التى وقعت بداية مِن الثلاثين مِن يونيو عام ألفين وثلاثة عشر، وهو تاريخ فاصل على المستويات كلها. على ما أعلم، وضعت اللجنة تقريرها، وأرسلته إلى رئاسة الجمهورية، أما الذى جرى بعد ذلك فلا يبدو أن أحدا مِن غير أعضاء اللجنة يعرفه أو يفهمه على وجه التحديد. تكرّر على مسامعنا إن التقرير النهائى سوف يخرج قريبا إلى النور، لكنا لم نسمع أو نقرأ سوى عن مُلخّصٍ لا يُسمِن ولا يُغنى مِن جوع، أُعلِنَ خلال مؤتمر صحفى فى نوفمبر الماضى، وتناقلته وسائل الإعلام راضية بالقليل الذى جاء فيه. لم نر مذ ذاك الحين أثرا للتقرير نفسه. لقد تشكّلَت اللجنة التى حملت مُسمّى «اللجنة القومية المستقلة لجمع المعلومات والأدلة وتقصى الحقائق فى الأحداث التى واكبت ٣٠ يونيو» بنهاية عام ألفين وثلاثة عشر، ويبدو أن العام الحالى سينتهى دون أن تطفو على سطحه النتائج التى أمكن التوصل إليها. هكذا اختفى التقرير الكامل. اختفت معه المعلومات والتفاصيل التى ربما أعطتنا صورة كاملة وقريبة مِن الحقيقة، والتى ربما أمكنها تحديد هويات الجناة، وتمييز الضحايا والمظلومين. اختفى التقرير ولم يعد أحد يذكره بخير أو بشرّ، ولم يبق فى وعى المتفرجين سوى جانٍ واحد موصوم أبدا بالإرهاب.

•••

أعضاء اللجنة شخصيات معروفة، منهم أساتذة قانون وقضاة دوليون، مشهود لأغلبهم بالخبرة والنزاهة، وقد تجاوزوا الفترة المقررة لإنجاز عملهم لكثرة ما قابلوا مِن شهود وما جمعوا مِن أدلة، سلموا التقرير بعد أحد عشر شهرا بدلا مِن ستة شهور. ظهروا بكثافة فى وسائل الإعلام خلال فترة عملهم، وما إن انتهوا مِن وضع التقرير النهائيّ حتى قلّ ظهورهم، ثم اختفى أكثرهم تماما من الساحة.

•••

كثيرة هى اللجان التى يتم تشكيلها، كثيرة فى العهود كلها حتى ليتندّر عليها أصحابُ الفكاهة والمرح. تنعقد فى اجتماعاتٍ دورية مَصبوغة بالخطورة والجدّ، وأحيانا بالغموض. يتشارك أفرادها المعلومات ويشتبكون فى جدالات وحوارات، ونتوقع أن يخرجوا إلينا فى نهاية الأمر بنتائج ثمينة وواضحة. ننتظر وننتظر ثم يصيبنا النعاس، ويتبخر فضولنا مع عوامل التعرية القاسية. اللجان لا حصر لها والاختفاءات أيضا، وما مِن التزام أدبيّ يجبر المسئولَ على إتاحة الحقائق التى يعرفها أمام الشعب المُستكين، أو على تمهيد الطريق أمام الناس كى يفهموا بعض ما جرى، ومِن ثمّ يتمكنون مِن فهم ما يجرى الآن، فكثيره مُظلِم وقليله يظهر بالكاد.

•••

يبدو أن الاخفاء أسهل بكثير مِن الإعلان، وأن المُداراة أهون مِن المواجهة، وأن المُصارحة والمُكاشفة بتفاصيل الأمور ليستا فى عقيدة النظام الحاكم. ربما يرى المسئولون أن الاعتماد على اضمحلال ذاكرة أنهكتها المُلوِثات والسموم، لأفضل مٍن تنغيصها بمعلومات قد لا تتحملها.

معلومات قد تلقى بها إلى دائرة الشكوك، وتتسبب فى إثارتها مزيد مِن التساؤلات، وفى دفع صاحبها نحو معرفة مزيد مِن الحقائق، وجميعها أمور تستجلب عواقب مكروهة لا يرضى عنها السادة. يقول الأستاذ جميل مطر فى مقالته عن هؤلاء الذين عاشوا آمنين بمنأى عن الحقيقة: إنهم إما كفوا عن البحث عنها، أو قبلوا مُضطرين بأن يحتكرها القيصر وكبير الكهنة. أظننا نعيش اليوم وهم الاضطرار، فلا قيصرنا بقيصر، ولا كبير كهنتنا بساحر، ولا يمكن أن يظل حقُ المعرفة واقعا فى خانة المحظور.

•••

إخفاء الناس مثله مثل إخفاء المستندات والتقارير، هو طَمرٌ مُتعَمّد للحقائق، وكما تحمل الأوراقُ معلوماتٍ، تحمل الأجسادُ المُختفية علاماتٍ، وتحمل الذاكرةُ أدلة وتفصيلاتٍ، وفى الحالين ثمة إدانةٌ لأشخاصٍ مُتورّطين. الكلمات والبشر؛ القرائن المَخفية قسرا وعلنا فى آن، تستحق البحث، والإلحاح على الإفراج عنها، فأغلب الظنّ أنها قادرة على إنارة جانبٍ هام مِن جوانب الطريق المُعتِم.

•••

يختفى أشخاص، وتختفى حقائق، ربما لأجل غير معلوم، وأقل ما بيدنا أن تظل الأسئلة مُتداولة ومطروحة حتى يوم الظهور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved