الثعلب والأحمق: زوابع هلسنكى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 18 يوليه 2018 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

أثارت قمة هلسنكى بين الرئيسين الأمريكى والروسى «دونالد ترامب» و«فلاديمير بوتين» زوابع سياسية وإعلامية لا مثيل لها فى أى قمة على هذا المستوى.
الزوابع بعواصفها هبت من كل اتجاه داخل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى على مستوى أداء «ترامب»، الذى وصف بـ«المشين».
والزوابع، رغم غبارها، تكاد تبين وتكشف تحولات جوهرية فى بنية النظام الدولى تؤثر ــ بالضرورة ــ على الإقليم ومستقبله.
فى قمة هلسنكى تناقضت طباع رجلين ومدى كفاءتهما.
الأول ــ «ترامب» يكاد لا يدرك الفارق بين إدارة مصالح دولة عظمى وأعمال المقاولات وتستبد به حماقاته.
بدا متهافتا على طلب شهادة من الكرملين بأنه لم يتدخل فى الانتخابات الأمريكية، التى جاءت به رئيسا.
وبدا مندفعا فى التشكيك برواية الأجهزة الاستخباراتية والأمنية وجهات التحقيق الأمريكية، التى وصفها بـ«السخيفة».
هاجم «الحماقات الأمريكية»، التى منعت الحوار مع روسيا دون أى فكرة تقريبا عن حجم التناقضات وطبيعة الصراعات الدولية فى فترة الحرب الباردة وما بعدها.
كما نال ــ عكس أى تقاليد مستقرة ــ من «الميديا» الأمريكية ومن الحزب الديمقراطى المنافس فى مؤتمر صحفى عالمى خارج بلاده.
والثانى ــ «بوتين» ثعلب سياسى استخدم ما لديه من أوراق بدرجة كفاءة عالية استدعت المقارنة والرثاء فى الدوائر الأمريكية قبل غيرها.
حدد أهدافه دون مبالغة فيما يمكن أن تسفر عنه القمة وفرض أولوياته على المؤتمر الصحفى المشترك.
حسن صورته فى مجال الإغاثة الإنسانية وقدم نفسه كرئيس لدولة ديمقراطية تحترم القواعد القانونية وتطلب المعاملة بالمثل.
تأخر متعمدا لنحو الساعة عن موعد القمة، وكانت تلك مسألة سيكولوجية أراد منها التحكم فى رئيس متفلت ومتناقض فى تصرفاته وتصريحاته، كأن يهاجم رئيس دولة حليفة ثم يصف ما نسب إليه بالأخبار الكاذبة قبل أن يعود لتكرار نفس الهجوم.
تحت صدمة الصورة الهزيلة التى بدا عليها «ترامب» بدأت التداعيات تأخذ مداها كاشفة عن حقائق جديدة قيد التشكل.
من التداعيات قدر التخبط والاضطراب فى التوازنات الداخلية الأمريكية وحجم الصدمة فى المؤسسات التشريعية والأمنية على السواء.
لأول مرة منذ انتخاب «ترامب» رئيسا يكاد أن ينعقد إجماع بين أقطاب الحزبين الكبيرين الجمهورى والديمقراطى على سوء أدائه الفادح فى المؤتمر الصحفى المشترك، وأنه قد ألحق إهانة بالغة بصورة رئيس الولايات المتحدة، وألصقت به نعوت وصلت إلى «الخيانة العظمى» من قبل رئيس سابق للاستخبارات الأمريكية.
إلى أى حد تحتمل المؤسسات الأمريكية ذلك الاضطراب فى بنية الدولة؟
وما النتائج المحتملة للانتخابات التشريعية فى نوفمبر المقبل؟
الأقرب إلى التوقع أنه سوف تلحق هزيمة انتخابية بالحزب الجمهورى تؤذن بنهاية حكم «ترامب» فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، أو التخلص منه بالعزل قبل حلول هذه الانتخابات.
لا يصح إطلاق الأحكام النهائية بالنظر إلى أن هناك قاعدة جماهيرية تؤيد خطابه الشعبوى وترى فيه دفاعا عن المصالح الأمريكية يخفف من حدة معاناتها.
تضم تلك القاعدة جماعات وتوجهات عنصرية بيضاء متجذرة فى المجتمع الأمريكى ولوبيات قوية مثل «اللوبى اليهودى» و«لوبى السلاح».
إذا ما كسب «ترامب» رهانه على جمهوره فإن أمريكا قد تخسر نفسها قبل أن تخسر العالم.
ومن التداعيات حجم السيولة بالتغير والتحول فى المعادلات الدولية.
لم يعد ممكنا الحديث عن «تحالف غربى» تقوده الولايات المتحدة.
ولا هو ممكن الرهان على بقاء حلف «الناتو» لأمد طويل نسبيا.
يكاد بتقوض ما تبقى من إرث الحرب العالمية الثانية.
كما سقط الاتحاد السوفييتى السابق وتفككت منظومته الدفاعية «حلف وارسو» فإن تراجعا مماثلا مرشحا أن يحدث على الجبهة الأخرى بصورة مختلفة.
ومن التداعيات، التى قد تحكم تحولات اللعبة الدولية، تدهور العلاقات الأمريكية الأوروبية، كما لم يحدث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
قبل قمة هلسنكى وصف «ترامب» الاتحاد الأوروبى بأنه خصم للولايات المتحدة، كالصين وروسيا.
رفض مناشدته منح إعفاءات لشركاته من العقوبات المفروضة على إيران.
كان ذلك موضوع تصادم فى إدارة ملف حساس بين الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبى.
دخل فى سلسلة متصلة من التحرشات السياسية مع القادة الأوروبيين دون مراعاة لأصول الخطاب، خاصة مع المستشارة الألمانية «انجيلا ميركل»: «التى تدفع مليارات الدولارات لروسيا لتأمين احتياجاتها من الغاز والطاقة فيما الولايات المتحدة تدافع عنها».
نفس المنطق استخدمه أمام الكاميرات مع ولى العهد السعودى «محمد بن سلمان»: «الدفع مقابل الحماية»، غير أن ألمانيا ليست السعودية ولا الاتحاد الأوروبى هو العالم العربى.
هذه حسبة مقاول لا قوة عظمى اكتسبت نفوذها الاستراتيجى والاقتصادى من تزعمها للقارة العجوز وقيادتها لـ«الناتو»، وعملياته العسكرية تقتصر على ما تقرره واشنطن.
لم تكن مصادفة أن أغلبها جرى فى العالم العربى ــ الحائط المائل فى النظام الدولى.
بالتعريف الواقعى فإن «الناتو» منظمة دفاعية أمريكية.
القضية ليست نسب ما يدفعه الشركاء الأوروبيون فى تمويل نشاطه العسكرى حيث يمكن تسويتها بالوسائل السياسية فى غرف مغلقة، بقدر حجم «التجريس» الذى اتبعه الرئيس الأمريكى وشكك فى حقيقة التزامه بـ«الناتو».
أحد السيناريوهات المطروحة فى المدى المنظور أن تلجأ أوروبا إلى بناء منظومة دفاعية خاصة بها على ما دعا وزير الخارجية الألمانى من أنه لا ينبغى للقارة الاعتماد على الولايات المتحدة.
كما أن أحد السيناريوهات الملحة المضى قدما فى بناء شراكات تجارية واقتصادية مع الصين واليابان وكوريا الجنوبية وكندا ودول أخرى فى العالم باسم احترام التبادل التجارى الحر ورفض الإفراط الأمريكى فى فرض الرسوم الجمركية على بضائعها.
بصورة أو أخرى فإن أغلبية العالم سوف يفضل اللعب مع أوروبا بحثا عن توازن مع الولايات المتحدة.
وبصورة أو أخرى فإن الصين سوف تكون المستفيد الأكبر فى إدارة ملفها الاقتصادى.
من التداعيات، بقوة الصورة، ارتفاع الأسهم الدولية لروسيا باعتبارها قطبا يصعب تجاهله، أو فرض العقوبات عليه.
بأثر ردات الفعل على الصورة المزرية التى بدا عليها «سيد البيت الأبيض» فى هلسنكى من المستبعد رفع أى عقوبات أمريكية على روسيا فى أى مدى منظور.
كان لافتا حرص «ترامب» دون مناسبة على تأكيد التزامه بأمن إسرائيل، ومحاولة الإيحاء أن «بوتين» يشاركه الالتزام نفسه، كأنه رئيس لإسرائيل لا للولايات المتحدة.
لم تتكشف ــ حتى الآن ــ حقيقة التفاهمات التى جرت بين الرئيسين فى جلسة مغلقة امتدت لساعتين لم يحضرها سوى المترجمين الخاصين.
الأغلب أنه ليست هناك تغييرات جوهرية فى الملفات التى طرحت أولوياتها على القمة.
قد تحدث حلحلة فى ملف أو آخر، لكن المواقف الأساسية تظل على حالها فى انتظار مساءلة الرئيس فى أمريكا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved