وفاق هلسنكى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 18 يوليه 2018 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

تخيلت وأنا أتابع المؤتمر الصحفى للرئيسين ترامب وبوتين أن العالم لا بد أن يكون واقفا مثلى على أطراف أصابعه. هناك فى هلسنكى وأمام كل الدنيا يعلن الرئيسان ما توصلا إليه فى الدقائق المعدودة التى قضياها معا وحدهما بعيدا عن أسماع المعاونين والمراقبين. كان اليوم بحق يوم المفاجآت. اكتشفت مثلا أن الفرنسيين وشعوبا أوروبية أخرى لم يهتموا بتطورات هلسنكى، فضلوا عليها مشاركة رئيس فرنسا ورئيسة كرواتيا فرحتيهما بما حققته بلداهما فى المنافسة على كأس لعبة كرة القدم. اكتشفت أيضا أننا لم نكن فى واقعنا الطبيعى بعيدين كثيرا عن واقعنا الافتراضى. تفاجأنا بالرئيس بوتين يدخل القاعة متمكنا بل ومهيمنا وبالرئيس ترامب غير مبال أو لعله ظهر لى يحمل على وجهه ابتسامة لا يرسمها إلا فيلسوف ساخر. دخل بوتين إلى القاعة بوجه ممتلئ سعادة. أظن أن أغلب من فى القاعة ومن هم فى قاعات أخرى فى واشنطن ولندن وبكين ونيودلهى وبرلين تسرب إليهم، كما تسرب لى، الانطباع بأن الرئيس ترامب لم يخيب آمال الرئيس بوتين، بل ربما حقق له فى هذه الجلسة أحلاما عديدة فوق تلك التى انتظر تحقيقها.
أظن أن بعضنا، وأقصد بعض المراقبين، استطاع أن يجد التفسير المناسب لتصرفات الرئيسين، وهى التصرفات والأعمال التى قام بتنفيذها أو الإيحاء بها أو تسريبها الرئيسان، وبخاصة الرئيس ترامب خلال عام ونصف وكان آخرها هذا المؤتمر الصحفى «التاريخى» بحق الذى عقده الرئيسان فى هلسنكى. هنا وأنا أشاهد هذا المؤتمر وأدرس تفاصيل إجابات الرئيس بوتين وحركات وتعابير وجه الرئيس ترامب، اقتنعت بأن هلسنكى كانت الإعلان عن أن روسيا عادت، بمساعدة أمريكية قوية، إلى موقع القمة الدولية واحدة من قوى ثلاث عظمى. اقتنعت أيضا بأن كثيرا مما أدهشنا من تصرفات أمريكية وروسية كانت بهدف تمهيدنا، أى تمهيد العالم لاستقبال روسيا العائدة بأحلام وطموحات واسعة.
الحق يجب أن يقال. ترامب الرئيس المتهم بالمبالغة والميل إلى تغيير معالم الحقيقة فى كل رواية أو قضية يتدخل فيها بالرأى أو بالفعل، كان فى هذا اليوم المشهود ملتزما مواقفه السابقة. لم يعتذر عن مبالغة هنا أو هناك أو عن موقف أثار غضب هذا الطرف أو ذاك. جلست أمام الشاشة أحتار بين قناعتى أن الرجل لن يتراجع عن أى موقف وبين ظنون أنه يحب أحيانا أن يفاجئ الناس وبخاصة قواعده باتخاذ مواقف جديدة. انتهت حيرتى بنهاية المؤتمر. مرة أخرى يفاجئنى ترامب. لم يغير موقفا ولم يعتذر عن خطأ ولم يلق بالًا لأعضاء حزبين كبيرين فى واشنطن يستمعون بانفعال أو أهتم بممثلى الإعلام الأمريكى فى قاعة المؤتمر وخارجها وقد تجاوز غضبهم حدود كل الصبر الممكن.
لم يتوقف ترامب عن الاستمرار فى شن حملته ضد حلفائه الأوروبيين. بل لعله ارتكب جريمة دبلوماسية فى حق المملكة المتحدة كدولة مضيفة له أنهى بها زيارة العمل التى قام بها. معروف لنا وللعامة والخاصة فى أوروبا أن ترامب منذ كان مرشحا لانتخابات الرئاسة يكره الاتحاد الأوروبى ومتحمس لحركة خروج بريطانيا من هذا الاتحاد. أخطأ سياسيا خطأ جسيما حين انتهز فرصة أزمة حكومية فى لندن فراح يلمح إلى أن رئيسة الوزراء لا تصلح لهذه المرحلة لأنها تعرض بدائل خروج من أوروبا أقل صعوبة. راح أيضا يرشح جونسون الوزير المستقيل وأحد عناصر الأزمة رئيسا للحكومة. ما أسعد بوتين وقد أتاه ترامب من أوروبا بعد أن أدى دور الثور فى معرض الخزف بكفاءة عالية. حاول تخريبها وأثار فى قيادتها فوضى عارمة محققا لبوتين حلما من أغلى أحلام روسيا الجديدة.

***

خرجت من مشاهدة المؤتمر واثقا من أن الرئيس ترامب تعمَّد أن يراه العالم وهو يبارك للرئيس بوتين سوريا، جائزته الأعظم لحسن تعاونه مع الولايات المتحدة على طول الأزمة. من ناحيته لم يقصر الرئيس بوتين فى تجميل صورة التدخل الروسى فى سوريا حين وعد بضمان سلامة إسرائيل. هنا أفاض الرئيس ترامب بدوره هو الآخر فى تأمين إسرائيل ومبديا استعدادا مترددا للغاية بدور لأمريكا فى المساعدة لتحسين أحوال اللاجئين السوريين. يريد بوتين فيما يبدو تقديم نفسه عنصرًا مهمًا فى وقف الهجرة السورية مستقبلا إلى أوروبا. ظنى الأكبر هو أن بوتين نجح فى إقناع ترامب بأن يمنح روسيا فرصة تتأكد خلالها أو بعدها هيمنة روسيا على حركة إيران خارج حدودها. الكل فيما يبدو صار واثقا من أن إيران محشورة الآن أو على الأقل لم تعد تتمتع بكامل حريتها للتدخل فى دول المنطقة كالعهد بها مؤخرا. حجة بوتين أن إيران الآن عضو فى جماعة الأستانة تستمد منها الأمان وتكشف لها عن مكنوناتها. كان واضحا أن دفاع بوتين عن إيران والتزامه القوى حماية إسرائيل ألجما الرئيس الأمريكى. هذا فى حد ذاته دليل على أن الرئيسين يفكران فيما هو أبعد، وما هو أبعد قد يدفعهما إلى طلب العون من إيران.
لم يغب عن ذهنى كمشاهد لأحد أهم المناسبات التاريخية أن الرئيس الأمريكى، المعترف به عالميا بصفته قائدا أقوى وأهم دولة فى العالم، لم يرد أو يوجه لقرينه الروسى أى انتقاد لتصرفات أجهزته الأمنية ضد بلاده وضد العالم الديموقراطى وضد الشعب السورى. لم يؤنبه على احتلاله شبه جزيرة القرم ثم ضمها إلى بلاده، وكان هو نفسه قد تردد فى انتقاده فى مناسبات سابقة على غزوه القرم. لم يحاول ترامب ولو تلميحا طلب الاعتذار عن جريمة إسقاط الطائرة الماليزية أو يضغط لتنفيذ تعهدات روسيا فى الاتفاق الدولى حول أوكرانيا. لم يشر من بعيد أو من قريب، رغم أنه شارك فى معاقبة روسيا، إلى اتهامها بتسميم مواطنين لاجئين فى إنجلترا. لم يفعل شيئا واحدا يغضب بوتين. حتى الطلب الرسمى الأمريكى، أى طلب حكومة يترأسها ترامب، باستدعاء اثنى عشر مسئولا روسيا متهمين بالتدخل فى الحملة الانتخابية الأخيرة رفض الرئيس الأمريكى دعمه أو حتى الاعتراف به صادرا عن جهة أمريكية. أظن أنه لم يهتم بأنه ظهر أمام روسيا رئيسا لدولة منقسمة والسلطة فيها مشاعا بين مؤسسات حكم متنازعة والرئيس لا يحوز على ثقتها.
أعتقد أن التفسير لهذه التصرفات الغريبة، بل والشاذة على العرف الدبلوماسى ومفاهيم القوة والتوازن، يكمن فى الصفة التى أصر ترامب أن يطلقها على بوتين. بوتين منافس. هو ليس خصما وليس عدوا. هو منافس. وقد وافقه الرئيس بوتين الذى اعتبر أن وظيفة كل منهما تحقيق مصالح بلاده. وهناك مصلحة لا جدال حول أهميتها. البلدان سوف يحتلان مكانة متقدمة فى قائمة الدول المصدرة للغاز والنفط. ترامب يقول إن أمريكا ستحتل المقدمة. وهو يعتقد أن مهمته تأمين السوق المناسبة للنفط الأمريكى فى وقت تعددت فيه الدول المتعطشة للطاقة وفاض فيه الإنتاج العالمى. أراد ترامب، رجل الأسواق، أن تكون أوروبا السوق المناسبة. ولكن أوروبا وألمانيا تحديدا سبقتا فاتفقتا مع روسيا. لا بديل الآن غير التفاوض مع روسيا للحصول على نصيب فى السوق الأوروبية. لا يخفى طبعا أنه حين تتفاوض دولتان الأعظم ستكون هناك صفقات عديدة فى مواقع مختلفة من العالم يعقدها الطرفان على حساب دول ومصالح أخرى أقل أهمية. الحملة على ألمانيا خاصة وميركل بالأخص والاتحاد الأوروبى عموما هى فى رأيى نماذج لهذا النوع من الصفقات الضرورية فى السباق على أسواق الطاقة. كذلك يسهل فى هذا السياق فهم تطور العلاقات مع إيران والتغيرات فى وضعها الإقليمى. فى هذا الإطار أيضا يمكن فهم تطور المواقف فى الدول المنتجة للغاز والنفط حول كمية المنتج وأسعاره.

***

عدنا لنرى كيف تلعب المادة الخام الدور الحاسم فى رسم خرائط النفوذ الدولى، وكيف غرست بذور النزاعات التى كثيرا ما أشعلت حروبا إقليمية وأشعلت بالفعل الحرب العالمية الأولى. الصين الآن على الطريق إلى الشرق الأوسط لتضمن لنفسها حصة ثابتة أو متصاعدة من النفط والغاز قبل أن يقنن الرئيسان بوتين وترامب أوضاع المنطقة ويوزعان المنافع والمصالح بصفة نهائية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved