أوكازيون

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 18 يوليه 2019 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

وقفَت الطالبة المتفوقة أمامي وفي عينيها نظرة تحدِ وسألَت: لماذا حصلتُ على ١٧ درجة من ٢٠ في البحث ؟ والبحث الذي تشير إليه الطالبة يخص أحد تكليفات الطلاب في إطار نظام الساعات المعتمدة المعمول به في العديد من الكليات الجامعية. في الأحوال العادية كان يمكن لي أن آخذ سؤال الطالبة على أكثر من محمل كأن أتصور مثلا أنها تريد أن تعرف نقاط القوة في بحثها لتستفيد منها وتطوّرها، أو أن أتصور أنها على العكس من ذلك تبحث عن نقاط الضعف التي جعلتها لا تحصل على الدرجة النهائية فتتعلم من أخطائها وتتلافاها في التكليفات اللاحقة. أقول كان يمكن أن آخذ السؤال على أكثر من محمل لكن نظرة التحدي التي رمتني بها الطالبة لم يكن لها سوى تفسير واحد هو أنها تستحق الدرجة النهائية وأنني قد ظلمتها. اعتدلتُ في مقعدي وأجبتُ الطالبة في هدوء: مبدئيا ليس من المفترض أن يحصل أحد على الدرجة النهائية في البحث لأن هذا معناه قدرات خارقة في التحليل وفي استخدام المنهج العلمي واستخلاص النتائج، ودرجتك تساوي تقدير جيد جدا كما تعلمين ... لم تدعني الطالبة أكمل كلامي وقاطَعَتني بالقول: لكن فلانة حصلت على ١٨ درجة من ٢٠، رددتُ عليها: نعم لأن بحثها متميز ومصادره متعددة وتقسيمه مناسب، هل تحبين أنت أيضا أن أناقشك في بحثك وأشرح لك السبب في درجتك؟ قالت: لا شكرًا .. عن إذنك، أدارت لي ظهرها وانصرَفَت. بذلك حكمَت طالبتي المتفوقة بأن ١٧ هي درجة غير مرضية بالنسبة لها، وأنها جديرة بما هو أفضل منها، وأن تنبيهها لأي قصور في بحثها لا قيمة له فالعيب عندي وسوء التقدير (وربما سوء النية أيضا) من جانبي.
***
هذا الموقف الذي حكيتُ عنه عمره أكثر من عام، نسيته أو الأصح حاولتُ أن أتناساه لأنه ضايقني جدا في حينه وقد لاحظتُ أن بطلته قررت معاقبتي فراحت تتحاشاني وتتجنب المرور بمكتبي للسلام كالمعتاد، ضايقني لأن المعنى الذي استقر في عقول شريحة واسعة من الطلاب هو أن الدرجات صارت هدفا في حد ذاته بغض النظر عن وجود ما يبرر هذه الدرجات من عدمه، فالمهم هو الحصول علي الحد الأقصى. وبمرور الوقت نجد أنفسنا إزاء عملية تعليمية تُخرّج عباقرة بدرجاتهم وأنصاف متعلمين بمستوى معارفهم حتى لتبدو العملية التعليمية أشبه ما تكون بعملية طبع أوراق البنكنوت دون غطاء من الذهب، وكما يؤدي الكرم الزائد في التصحيح لتضخم التقديرات والدرجات كذلك يقود طبع العُملة دون ضوابط لانفلات الأسعار، وكلاهما لا يعكس القيمة الحقيقية. تذكرتُ موقفي مع الطالبة المتفوقة إياها بعد إعلان نتائج الثانوية العامة ومجاميع الأوائل التي هي إما تصل إلى نسبة ١٠٠% أو تقل عنها بقليل، وهذه ظاهرة ليست جديدة، بل إننا سنجد أنه كل عقدين أو ثلاثة تحدث طفرة في المجاميع بحيث إن ما كان يكفي لدخول كليات القمة في الستينيات صار لا يؤهل لها في الثمانينيات وما كان يحجز مقعدا جامعيا للطالب في التسعينيات صار غير كاف في الألفية الثالثة ، لكن المشكلة هي أن انفلات المجاميع بلغ مداه ولم يعد هناك أي مجال لمزيد من التوسع، فالبعض منها يفوق فعليا العدد الكلي للدرجات. وفي ظل هذه الظروف يصبح منطقيا جدا أن تجد طالبتي أن ١٧ من ٢٠ هي درجة دون المستوى .
***
تحتاج ظاهرة المبالغة في درجات المتفوقين إلى تفسير لأنها ظاهرة غير صحيّة، فهي قد تشير إلى أن معايير التصحيح باتت أقل صرامة من ذي قبل حتى أن ما كنّا نرفضه من قبل صار الآن يبهرنا، والواقع أننا لو أعملنا معيار سلامة اللغة وحده لما تفوق أحد أصلا، هذا ناهيك عن أخطاء معلوماتية فادحة لا تترك أي مجال لسعة صدر المُصحِح كأن يكتب طالب في البكالوريوس إن الكويت نظامها جمهوري أو إن حزب البعث حزب شيعي أو أن إيران دولة عربية، وهذا حدث ويتكرر. وقد يقول قائل إن التضخم ضَرَب كل شيء: من أول السلع مرورا بالدرجات وانتهاء بتضخم الذات والثقة الزائدة بالنفس حتي يظنّ طلابنا أن الخطأ لا يأتيهم من بين أيديهم ولا من خلفهم، وهذا التفسير إن صح يمثل مشكلة كبيرة لأن من يتصور أنه يعرف كل شيء سوف يتهم من يحاول توجيهه بأنه متآمر بالضرورة ، وسيظل يبحث عن الخطأ خارج حدود ذاته. هل يمكن القول أيضا إن مفهوم الأوكازيون انتقل من عالم السلع والبضائع إلى مجال كالتعليم والبحث العلمي وإن الامتحانات صارت مناسبات لتقديم أفضل العروض (أو الدرجات) بأقل الأسعار ( أو المستويات ) ؟ أخشى من الإجابة بنعم على هذا السؤال خاصة وقد دخلت مجال التعليم من أوسع الأبواب.
***
إن تضخم الدرجات والتقديرات يتجاهل حقيقة أن المتفوقين حتى في أكثر الدول تقدما ليسوا سوى أقلية محدودة العدد، وهو يهدر قيمة التنافس الذي يميز المجتمعات المفتوحة ويساوي دون وجه حق بين أشخاص غير متساوين أصلا، ثم أنه خطير لأنه يضع في الصفوف الأمامية أشخاصا يُفتَرَض فيهم أن يقودوا بينما هم في حاجة إلى دعم مستمر من المحيطين بهم. إن العالم المتقدم يصنع ذكاء آلاته ويطّوره إلى المدي الأقصى هذا صحيح ، لكنه لا يشجع البشر على تصنع الذكاء ولا يكافئ المتصنعين منهم أبدا .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved