«كابتن فانتاستيك».. كثير من التمرد وقليل من التصالح

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 18 أغسطس 2016 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

قطع الفيلم الأمريكى «كابتن فانتاستيك» الذى حصل على جائزة أفضل مخرج فى تظاهرة «نظرة ما» فى مهرجان كان 2016، شوطا واسعا فى التعبير عن بطله المتمرد الذى أخذ أولاده الستة ليعيشوا فى الغابة، على هامش مجتمع صناعى ورأسمالى يراه مستغلا، ومنحهم تعليما منزليا، ينحاز إلى الطبيعة والبساطة، ويتبنى الصراحة والجرأة والاعتماد على الذات.

ولكن الفيلم، الذى كتبه وأخرجه مات روس، سرعان ما اختار أن يتوقف بطله بن (فيجو مورتنسون) لكى يتأمل تجربته، ولكى يصل إلى بعض التصالح مع المجتمع. لن يتنازل بن تماما عن طريقته فى تعليم أولاده، ولكن لا مانع عنده فى أن يذهبوا إلى الحياة بكل صخبها، وأن يتعلموا من الواقع مثلما تعلموا من الغابة.

فى هذه الرؤية بعض المهادنة، وفيها كذلك محاولة للجمع بين أمريكا المتمردة وأمريكا المحافظة، إنه نوع من التوفيق أو التلفيق، مما يجعلنا نُصنف «كابتن فانتاستيك» ضمن فئة وسطى معلقة بين أفلام تنتقد الحلم الأمريكى وأفلام أخرى تتماشى معه.

الحقيقة أن الطريقة التى رسمت بها شخصية الأب بن، وعلاقته بأولاده، وحياتهم الموازية للمجتمع، لا تبرر مراجعته لنفسه فيما بعد، حتى لو كان بعض الأبناء قد تمردوا على والدهم. اختلاف بن مع مجتمعه مبدئى، إنه ضد العالم الاستهلاكى، ويرفض تلك المدنية المصنوعة، ويكره الأطعمة الملوثة، بل إنه يصف المياه الغازية بأنها مياه مسمومة، وابنه الأكبر يعتنق الماوية (نسبة إلى ماوتسى تون)، وشعار «العودة إلى الطبيعة»، و«المجتمع الذى يعمل فيه الجميع»، يتحقق فعليا فى مواقف كثيرة.

فى المشهد الأول، يقوم الابن الأكبر بمطاردة أحد الأيائل، يقتله بالسكين، بقية الإخوة يشاركون فى المطاردة، على وجوه الجميع أصباغ وعلامات، تذكرنا بمظهر الهنود الحمر، الأب بن ينتزع كبد الحيوان، ويقدمه لابنه لكى يأكله نيئا كدليل على انتقال الابن، من مرحلة الطفولة، إلى مرحلة الرجولة.

الجميع يعملون، وكأننا أمام فريق للكشافة، يطهون الطعام، يغنون، يتسلقون الجبال، يمارسون تدريبات محددة يومية للجرى واللياقة البدنية، الأب يوزع عليهم الكتب، يمنحهم وقتا لإنهائها، ويعطيهم الدرجات، مجتمع صغير مستقل، علاقتهم بالمدينة محدودة، الأب وابنه الأكبر يذهبان أحيانا، فى تلك الحافلة، التى أطلق عليها الأب اسم «ستيف».

تتغير حياة الأسرة، عندما يعرف الأب أن زوجته وأم أولاده ليزلى قد انتحرت، بعد معاناتها من اضطراب عقلى، مما استلزم بقاءها فى مصحة، والد الزوجة (فرانك لانجيللا)، يرفض حضور زوج ابنته مراسم دفنها فى مدينة نيومكسيكو، ويهدده بإبلاغ الشرطة عنه لو فعل، الآن على بن أن يختبر مدى حبه لزوجته، وأن يخوض مع أولاده رحلة الانفتاح على الواقع، ومحاولة تنفيذ وصية الزوجة، بأن يحرقوا جثمانها، لا أن يدفنوه، لأنها تتبع البوذية.

فى أحد أقوى مشاهد الفيلم، يعلن الأب لأولاده الستة خبر انتحار الأم، إنه لا يكذب أبدا عليهم، كل سؤال يجيب عنه بصراحة، حتى لو كانت الحقيقة مؤلمة أو صادمة، الأم كانت مضطربة عقليا، وقد انتحرت، يبدأ البكاء، يصرخ الابن ريليان، يمسك مديته ويضرب بها الخشب، سينحاز الأولاد أخيرا إلى فكرة الذهاب إلى نيومكسيكو، لتنفيذ وصية الأم الأخيرة، خمسة أيام بالحافلة الخاصة، ستقودهم فى رحلة للانفتاح على العالم، الواقع الملموس، فى مواجهة الواقع المكتوب فى الكتب.

فى أثناء الرحلة، تتضح ملامح طريقة بن فى تعليم أولاده، إنه يناقش معهم كل الأمور، التى قد يراها الآباء محرجة، ابنته المراهقة تناقشه فى رواية «لوليتا»، يشرح لأولاده بعبارات صريحة حول معنى اغتصاب الرجل لامرأة، فى مشهد آخر يحتفل مع أولاده بعيد ميلاد نعوم تشومسكى، رغم اعتراض ابنه ريليان. تتأكد فكرة أننا أمام مجتمع مواز، يرفض المجتمع الرأسمالى، ويحلم بتعليم أكثر تحررا وانفتاحا، حتى أسماء الأولاد، اخترعها بن اختراعا، وكأنها تخص كل فرد، ولا يمكن أن تتكرر.

مع ظهور والد الزوجة ووالدتها، يحدث الصدام المتوقع، يعترض بن على حفل التأبين، يقول إن زوجته بوذية، وتريد حرق جثمانها، الأولاد يتجاوبون مع عطف الجد والجدة، الابن ريليان يريد أن يبقى مع جده، والابن الأكبر يصارح والده بأن أكبر الجامعات أرسلت إليه لكى يدرس فيها، تهتز أفكار بن، وخصوصا بعد سقوط ابنته، وكسر رجلها، فى محاولة استعادة ريليان من بيت الجد.

ما يزيد من ارتباك الرؤية بين «التمرد» و«المصالحة»، تلك الصورة المتعاطفة التى ظهر بها الجد، إنه يسكن قصرا ضخما، ويعيش حياة مرفهة، وقد كان معترضا على زواج ابنته من هذا المتمرد، لا يريد الجد سوى توفير حياة أكثر رفاهية لأحفاده، يبدو بن مهزوزا ومضطربا، يحلق لحيته الطويلة، يراجع فكرة منع أولاده من الذهاب إلى المدارس العامة، ولكنه ما زال مصمما على تنفيذ وصية زوجته الراحلة.

تتأرجح أيضا مواقف الأبناء: ريليان ينحاز للجد، الابن الأكبر يواجه والده بفكرة الدراسة فى الجامعة، ولكن سرعان ما يعود الجميع إلى الأب، من أجل تنفيذ وصية الأم، فى مشهد آخر مميز، تجتمع الأسرة من جديد، بعد أن يسرقوا التابوت، يقومون بإحراق الجثة فى أعلى الجبل، ويغنون معا أغنية راقصة كانت تحبها الأم.

ينتهى الفيلم بمشهدين يجمعان بين التصالح والتمرد: يودع الجميع الابن الأكبر الذى قرر السفر إلى ناميبيا فى مغامرة جديدة، يوصيه الأب بن بالصراحة والجرأة واحترام المرأة، وبأن يكون حذرا، وفى المشهد الثانى يجلس الأب مع أولاده، يخبرهم بوصول الأتوبيس بعد ربع الساعة، يتناولون إفطارهم، يبدو أنه أتوبيس المدرسة، لحظات صمت، لا نرى الأتوبيس عند وصوله، ولا نعرف تفاصيل إضافية، الأب بدون لحيته الطويلة، ولكنه ما زال يسكن فى بيته الخشبى فى الغابة.

مسيرة التمرد والرفض تعرضت هنا إلى مواجهة ناعمة من المجتمع، المواقف رُسمت بلمساتٍ ساخرة لطيفة، هناك مشاهد كثيرة من هذا النوع، مثل غناء الأولاد فى الحافلة أغنية دينية حتى لا يقوم الشرطى بتفتيش الحافلة، واندهاش الأولاد من ألعاب الفيديو عندما يرونها لأول مرة، ومنظر دخول الأب وأولاده بملابسهم الملونة إلى حفل تأبين أمهم فى الكنيسة، ومشهد طلب الابن الأكبر الزواج من فتاة أُعجب بها منذ فترة قصيرة للغاية، ولكن هناك أيضا مشاهد ساذجة، مثل ظهور الزوجة ليزلى لزوجها، لتوصيه بالأولاد على طريقة أفلام الأبيض والأسود.

لدينا أيضا أداء متفوق من فيجو مورتنسون، وكيمياء رائعة بينه وبين ممثلى أدوار أولاده، المخرج مات روس كان مميزا فى إدارته لممثليه، وفى اختيار أماكن التصوير، حصل على جائزة أفضل مخرج فى قسم «نظرة ما»، وإن كان محمد دياب (فى رأيى) أكثر تميزا وابتكارا من روس كمخرج فى فيلم «اشتباك»، الذى عرض فى نفس القسم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved