دولة افتراضية فى مواجهة الهمجية والعنف؟

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الأحد 18 أغسطس 2019 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع درج مقالا للكاتب «محمد خلف»، نعرض منه ما يلى:

لم يعد جنونا التفكير بإنشاء دولة افتراضية بعد التطور النوعى الهائل فى تكنولوجيا الانترنت وتقنيات الاتصالات والعولمة المتسارعة، والتى وفّرت للجميع فرصا لا تعد، لفعل أى شىء لتحويل أفكارهم حقيقةً وواقعا معاشا. أحد هؤلاء الذى سبروا أغوار العالم الافتراضى، هو ساتوشى ناكا موتو الذى اخترع عملة البيتكوين، مثيرا الذهول والارتباك فى صفوف رجال الأعمال والمصارف العالمية.

وعلى الطريق ذاته، سار الخبير الاقتصادى فيت جيدليكا الذى أنشأ دولة افتراضية تعتمد على منح العملات الرقمية، وتقدم أكثر من نصف مليون شخص بطلب للحصول على جنسية هذه الدولة، التى أطلق عليها اسم ليبرلاند، وهى ليست أكثر من مجرد شاطئ رملى بطول 7 كلم بجانب نهر الدانوب الواقع بين كرواتيا وصربيا و10 كلم جنوب الحدود المجرية.

اعتقلت السلطات الكرواتية، جيدليكا بعد انتشار أخبار عن دولته الافتراضية الجديدة، وبعدما حاول إقامة معسكر فى ليبرلاند، مستغلا ثغرة منعت كرواتيا من المطالبة بسيادتها على المنطقة. وقال جيدليكا، إن الوضع فى ليبرلاند ما زال صعبا، مشيرا إلى أن الشرطة الكرواتية تضطهد زوار المنطقة وكذلك المستوطنين فيها، مضيفا أنه ينتظر تبرئة من المحكمة الدستورية الكرواتية، موضحا أن المستوطنة الخاصة بالدولة الافتراضية انتقلت من البر إلى النهر وتستضيف يوميا الزوار.

«عِش ودع غيرك يعيش»، هذا هو شعار دولة ليبرلاند، ولفت جيدليكا إلى أنه يخطط لإنشاء دولة أخرى بخصائص ليبرلاند ذاتها، لكن هذا كله يتوقف على السكان المحليين. ومن بعيد، تبدو خطط جيدليكا، الذى أمضى ثلاث سنوات فى محاولة لبناء أمة من الصفر، وفى السفر لجمع متطوعين وأتباع يشاركونه أهدافه صعبة التحقيق، بحسب الصحيفة البريطانية «تليغراف». عمل جيدليكا كما يقول «محللا للأسواق المالية لسنوات، ما وفر له إمكان معرفة شكل نظام الدول، مؤكدا أنه لم يعر البيتكوين مزيدا من الاهتمام فى 2010، حينما اكتشفها لأول مرة فى حياته، مضيفا أنه ليس قلقا بشأن مخزون دولته من العملات الرقمية، لأنها غير مدينة». وقال جيدليكا إن «باتريك شوماخر، الرئيس التنفيذى لشركة زها حديد للهندسة المعمارية، واحد من مؤيدى الفكرة، وقدم أعمالا فنية وتصاميم لدولة المستقبل».

إستونيا فاجأت دولا كثيرة، كونها كانت الأولى فى العالم التى أعلنت أنها ستقدم خدمة الإقامة الرقمية للأجانب، وذلك بعد موافقة البرلمان على قانون ينص على إصدار هذا النوع من الإقامات مقابل 64 دولارا فقط. وسيكون من حق حامليها التوقيع على المستندات عبر الانترنت، والإقامة والحياة افتراضيا فى إستونيا.

هل الماضى أهم من المستقبل؟!

يعيش الجزء الأكبر من البشرية فى عالم يولى الماضى أهمية أكبر بكثير من المستقبل، ومع ذلك فالسؤال المطروح: هل توصّل الإنسان إلى قبول فكرة أن تظهر دولة مهمتها حل مشكلات البشرية المشتركة؟ علينا الاعتراف والإقرار بحقيقة أن فكرة قيام دولة افتراضية أو ظهورها ليست جديدة.

ربما قرأ كثيرون مصادفةً عن محاولات فى الماضى ليس القريب فقط، وإنما البعيد أيضا عن تلك المدن التى تعمل على مشروع لتوسيع أرضها المحدودة، من دون أن تعتدى على أراضٍ لدول مجاورة لها أو تسطو عليها، ذلك أن توسعها حدث من خلال إضافة فضاء غير محدود من العالم الافتراضى إلى أراضيها. وهذه الفكرة تنطبق على سنغافورة وهونغ كونغ، وأيضا الدولة الإسلامية «داعش»، التى أوجدت لها خلافة فى العالم الافتراضى. وهذه كلها ليست سوى جزء صغير من نماذج كثيرة بغض النظر عما إذا كانت هذه الدول الافتراضية مفيدة أو سيئة فى اللحظة الراهنة وفى المستقبل.

فاجأنا الدبلوماسى البريطانى السابق سايمون آنهولت بمشروعه لإقامة دولة افتراضية تكون كما يريدها، الدولة الثالثة الأكبر من حيث عدد سكانها فى العالم. غير أن آنهولت لم يفكر ولا حتى للحظة واحدة فى أن تتأسس دولته من خلال قضم أجزاء من دول أخرى أو اقتطاعها، حتى ولو بسنتمتر واحد. اشتهر آنهولت بأنه مؤسس مؤشر الدولة الجيدة أو البلد الجيد وطرح لها عدة مؤشرات أولها السعادة والرفاه الاجتماعى ونوعية التعليم وجوهر الحياة الفعلى. ويرى آنهولت أن الدولة يجب أن تكون نموذجا لغيرها من الدول وهذا وفق تصوره يمكن تحقيقه من خلال التقرب أكثر من بلدان العالم الأخرى، ومد جسور التعاون والتبادل التجارى والدبلوماسى والثقافى وغيرها من المكونات الأساسية لبناء السمعة الجيدة.

مؤشر الدولة الجيدة

ولدت هذه الفكرة واختمرت فى عقل آنهولت عام 2014، مع بدء تقديمها وعرضها لأول مرة وسرعة تحولها الموضوعَ الأكثر نقاشا فى الأوساط الحكومية المعنية فى العالم. أى دولة يريد آنهولت تأسيسها وإلى أى معايير تستند؟ هى دولة افتراضية عدد سكانها أكثر بضعفين من سكان الولايات المتحدة. ويقول «هذه الدولة موجودة فعلا الآن، ولكن الناس لا يعون هذه الحقيقة لأنهم ينظرون إلى الأرض المشتركة التى تقوم عليها هذه الدولة، وإذا كانت لها جوازات سفر موحدة».

إذا، ما دام بإمكان إستونيا إقامة دولة افتراضية، فلماذا ليس بمستطاع الآخرين أفرادا أو جهات تأسيس دولة افتراضية مماثلة، ولكن كما يؤكد آنهولت عن الدولة الافتراضية أنها «ستكون واقعا ملموسا، والوقت الراهن هو الأكثر مناسبة لمثل هذه الفكرة، بخاصة أن مفهوم الدولة يتغير، بوتيرة تغير ماهية الحزب السياسى وجوهره، وتبدل مفهوم مصطلح رئيس الدولة». ويتابع، «ما يميز الأمة مفهوما هى مجموعة من الناس يعيشون معا، ويتشاركون الخلفية الثقافية ذاتها». من هنا برأيه، فكرة الحياة فى المكان ذاته عفى عليها الزمن، فالإنسان بغض النظر عن عرقه أو دينه، يمكن أن ينتمى إلى وطن من دون أن يعيش فيه أو هو ليس مكان مولده الحقيقى. وإستونيا أثبتت ذلك بمنحها جنسيتها رقميا للأجانب، كما توجد مجتمعات كثيرة تتشكل الآن وتتشارك فى القيم والثقافات، من دون أن تربط ناسها جغرافيا محددة، ولكنهم مرتبطون بالعيش معا على الانترنت افتراضيا على سبيل المثال.

لا حكومة ولا وزارات

إحدى أساسيات الدولة الافتراضية عدم وجود حكومة، بل هيئة صغيرة تتولى مهمة إدارة المؤسسات العامة وتقديم الدعم للوظيفة الرسمية الوحيدة، وزير الخارجية، كونها دولة بمواطنين من كل دول العالم، وسيحمل الوزير اسم «الوزير العالمى»، ويتم استبداله دوريا. واختيرت شخصية لتولى هذا المنصب، وهو براغا حنا، أمريكى من أصول هندية وكاتب ومحلل سياسى. وحنا برفيسور فى جامعة سنغافورة، والأهم أن أفكاره تتطابق تماما مع ما يعرف بالدولة الجيدة، فهو يتحدث فى كتابه عن النظام العالمى الجديد للتقنيات المتطورة، عن أنه فيما تتراجع الدول إلى نموذج العصور الوسطى فى العلاقات المتبادلة فى ما بينها، نحتاج نحن إلى قوة عالمية مؤهلة لقيادتنا إلى الأمام، ولحل المشكلات الكبرى. وسيكون حنا مسئولا عن أموال دافعى الضرائب وهى 5 دولارات فى العام الواحد، بحيث ينفقها بطريقة يتم التوافق عليها من خلال مناقشة عامة. المبلغ الذى سيتم تحصيله فى النهاية يصل إلى 3.8 مليار دولار، أى ميزانية مماثلة لميزانية دولة سيراليون، بحسب آنهولت.

يتكون عالمنا المعاصر من مجتمعات المهاجرين، وفى هذا الصدد تمكن العودة إلى مقالات الباحث يوفال نوا هارارى الذى يذكرنا بأن العالم كله يستند إلى مثل هذه المجتمعات: فى الأحياء السكنية وفى الشركات الكبرى وفى الدول والأمم. وهذه الوحدات تتأسس على قواعد وضعها هؤلاء الناس، وليس هذا فقط، إذ توجد أيضا مجتمعات لا تقوم على الأفراد مثل «فيسبوك» والأمم المتحدة. يقول آنهولت: «آخر ما أريده هو أن تكون دولتنا الافتراضية شيئا أقل من الأمم المتحدة».

فى نهاية المطاف، يبقى السؤال البديهى الذى يراود كثيرين، هل الدول الافتراضية هى الرد المناسب على الظواهر الشاذة والسيئة التى تحدث فى العالم، وفى طليعتها تنامى قوة القادة الاستبداديين والأحزاب القومية المتشددة والشعبوية، التى تحرض فى مجتمعاتها وجمهورها العام النزعات والغرائز البشعة والشريرة، بدلا من العمل على تنمية المشاعر الإيجابية والخيرة التى يتوحد حولها الجميع؟ من هنا يثار السؤال التالى: فى هذه الحالة أليست فكرة الدولة الافتراضية عبثية؟ يجيب آنهولت: «لا لا، ليس هناك ما يربط بين المسألتين، هدفنا ليس قصير المدى، كما أن دولتنا ليست ردا عاطفيا على أردوغان أو ترامب أو بوتين، إذ إننا نسعى إلى مشروع طويل المدى، يبرهن للجميع أن هناك بديلا من الهمجية، وطريقة أكثر منطقية وإنسانية لإدارة هذا العالم، لا تقوم على مصالح شخصية. وبمقدور الدول أن تتسابق وتتنافس، إنما عليها فى الوقت نفسه أن تجد فى نفسها ما يكفى من القدرات الذاتية للتشارك مع الدول والمجتمعات الأخرى حول قيم وأهداف إنسانية موحدة».

النص الأصلى

http://bit.ly/2MmuSLT

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved