بين نافذتى ومسيل الدموع

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 18 سبتمبر 2012 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

لم يكن لنافذة مكتبى إطلالة قبل الثلاثاء من الأسبوع الماضى.. هى نافذة ككل نوافذ حى كان يوما من أرقى أحياء القاهرة.. كان يُقال لا يسكن جاردن سيتى سوى الباشاوات وكبار القوم.. أصبح الآن حيا كما الكثير من أحياء القاهرة خليطا من سفارات وفنادق فخمة تلتصق بها بقايا بيوت وعمارات متهالكة.. قطعت شرايينها لسنوات فاختنقت المحال الصغيرة وكثير من سكانها.. استبشر البعض منذ أشهر عندما عادت الحياة لها.. فتحت الشوارع على مصراعيها وعاد الحى ينتظر أن تعود الحياة تدريجيا.. بعضهم ربما حلم بعض الشىء بأن لهذا الحى حياة أخرى ربما؟ والآخر عاد يردد مشاهد استرخاء الفلل العريقة فى حضن الشجر متلاصقة مع النيل..

 

يرسمون صورا لسميراميس غير هذا الرابض على حافة الكوبرى وفيلا أخرى ما لبث أن حولها مستثمر آخر لم يعش أمسيات جاردن سيتى إلى مبنى من الكونكريت أطلق عليه تسمية لفندق زاد عدد نجومه عن تلك المختبئة فى سماء القاهرة الملبدة بسحب التلوث.. لكل فيللا وشقة حكاية مع أناس كانوا هنا فيما هم انفتحوا على جهات الكون الأربعة.. هم كانوا جزءا من تراث بشرى متكامل، يرسلون الثقافة والعلم والمعرفة والشعر والأمل وكثير من الحب ويتلقون المزيد منه مع ذرة من التقدير والاحترام لقوم كانوا هم سكان جاردن سيتى.. جدران تحكى قصص نقاشات كثير منها كان عن أحوال مصر والعالم وعن نسائها أيضا.. قيل إن إحدى الشقق فى العمارة الملاصقة لذاك الفندق الفخم كانت لهدى شعراوى.. يكفى جاردن سيتى أنها تحكى قصصا من مصر التى كانت.. مصر الجمال والرقى والحضارة.

 

●●●

 

فى الثالث من الأسبوع الماضى عاشت جاردن سيتى سهرة أخرى ليس مع موسيقى الفالس ولا أنغام التانجو ولا موشحات بل مع الكثير من الغضب لم تألفه هذه الشوارع الساكنة المختبئة خلف ما تبقى من أشجار.. لم يكن سوى احتجاج على فيلم. وفى ذلك قيل الكثير. وكانت كاميرات التلفزة أكثر صدقا من أى كلام يكتب.. وقد أشبع الجميع تحليلا للفيلم وتفاهته وكيف أن الكثير من الاحتجاجات التى اتخذت مع الوقت منحى العنف والحرائق والقتل لا مبرر لها، بل هى تسىء إلى الرسول أكثر من الفيلم نفسه.

 

رحل المتظاهرون وبقيت ورائهم الكثير من مظاهر الأمن الذى عاد ليخنق هذا الحى من جديد.. فى بداية الأسبوع استيقظت جاردن سيتى على وقع ما بعد الحدث.. راحت تلملم جراحاتها.. تتحسس تضاريس الحى وسكانه.. فى البدء الاطمئنان على البشر ثم الحجر وهو ليس كأى حجر حيث لكل قطعة منه حكاية تذكر.. بقايا عربات محترقة هنا.. وكثير من الجدران الملطخة بعبارات بعضها كثير القبح.. وأسلاك شائكة عادت لتخنق شوارعها وتقطع أكسجين الحياة.. حتى هواءها لم يسلم فالتصقت به بقايا مسيل الدموع.. نفض الكثيرون الغبار والتراب وفى أعينهم كثير من الدمع.. كلما استبشروا خيرا عادوا لألبوم الذكريات يعيشون بين الصور شوارع وأشجار كانت هنا يوما.. كيف أصبح الأبيض والأسود أكثر جمالا من ألوان أيامهم الآن.. كيف اختفت أنغام الموسيقى الناعمة على وقع ضجيج القاهرة الأزلى وصراخ بعض من سكانها الجدد! وكيف استبدلت رائحة الياسمين بمسيل الدموع القاتل! عاد السايس يرص العربات ويغلق الشوارع والطرقات المتبقية. يحكم ويتحكم.. عادت حالة الاختناق وانقطاع الأكسجين عن شرايين جاردن سيتى.

 

●●●

 

لنافذة مكتبى فى اليوم الأول من بعد «غزوة جاردن سيتى» إطلالة جديدة. كثير من الأمن والأسلاك الشائكة، بقايا من آثار تلك الأيام ومؤشرات على أيام قادمة هى لا تشبه أيامهم الراحلة ولا تملك ما يقربها من هذا الحى.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved