من قصص التحريم

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 18 سبتمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

وقعت فى يدى دراسة كتبها ستيفن نادلر، أستاذ الفلسفة بجامعة ويسكونسين ماديسون تحت عنوان «لماذا أخرجوا سبينوزا من الديانة اليهودية»

●●●

منذ زمن وأنا أسعى وراء إجابة تشرح لى الوقائع والأدلة، التى استند إليها جماعة من قادة اليهود قبل أن تصدر حكما بطرد الشاب بنتو سبينوزا من الجماعة اليهودية فى هولندا فى يوم السادس من شهر AV من عام 5416 فى التقويم العبرانى، الموافق 27 من أغسطس من عام 1656 فى التقويم «الميلادى» أو الجريجورى، ومتهمة إياه باعتناق أفكار شريرة وممارسة أفعال شنيعة. الأمر الذى أثار حيرتى، وحيرة الكثيرين عبر القرون، هو أن هذا الحكم بإخراج سبينوزا من اليهودية، وهو فى الثالثة والعشرين من عمره، أى قبل عشر سنوات على الأقل من نشر أول مقال له فى الفلسفة. بمعنى آخر، صدر الحكم قبل أن يرتكب الشاب جرما فى حق اليهودية وقبل أن يصدر عنه ما يدل على أنه بلغ من النضج الفلسفى والأكاديمى ما يسمح للآخرين بأن يحاسبوه على آراء وأمور هى من شئون المتخصصين، ومن هم أكبر سنا ومعرفة. هل تنبأ من حاكمه من رجال الدين بما سيقرأ ويكتب فى قادم زمانه، أم أن معجزة ما ألهمتهم بأن سبينوزا سيمثل تهديدا للديانة اليهودية وأن عقابه يجب أن يكون سابقا على ارتكابه الذنب الأعظم.

●●●

ولد سينبوزا واسمه الأول بنتو أو باروخ، وكلاهما يعنى «المبارك»، فى هولندا لأبوين من اليهود السفرديم. لم يكن على قدر كبير من الثراء رغم أن عائلته من أصول عريقة فى المجتمع السفردى، هاجرت إلى هولندا هربا من مطاردة الحكام الكاثوليك فى البرتغال. عمل بنتو تاجرا صغيرا يستورد الفواكه المجففة، ولم يكن معروفا لدى الكثيرين من أبناء الجالية اليهودية حتى فوجئ مثل غيره بحكم صادر عن «سادة المعبد» Senhores of the Maamad بحرمانه من حق الانتماء إلى الجالية اليهودية وطرده من الديانة. جاء فى الإعلان الشهير الذى صدر عن كنيس مدينة Houtgracht أن سادة المعبدبعد أن أطلعوا على «الآراء والممارسات السيئة التى ارتكبها باروخ دى سبينوزا، ومحاولاتهم إعادته عن هذه السبل الشريرة وفشلهم فى ذلك، وصلت معلومات خطيرة عن استمراره فى ابتكار البدع البغيضة وارتكاب أعماله الشنيعة، وبعد الاطلاع على شهادات الشهود جرى التحقيق فى حضور كبار الحاخامات Hakhamim «أى الحكماء» قرروا حرمان سبينوزا وطرده من «الشعب الإسرائيلى». يستطرد الإعلان: «بمرسوم الملائكة وبأمر الرجال المقدسين، تقرر عزل وطرد ولعن باروخ سبينوزا برضاء الرب وفى حضرة المخطوطات المقدسة scrolls، وفى وجود تعاليمها الستمائة وثلاثة عشر. ملعون باروخ بالنهار وملعون بالليل. ملعون هو حين يرتد وملعون حين يستيقظ. ملعون حين يخرج وملعون حين يعود. كل لعنات الكتاب المقدس ستنزل عليه، وسوف يشطب اسمه من سجلات السماوات والأرض». ينتهى الإعلان، المحفوظ حاليا كوثيقة من وثائق المحفوظات اليهودية البرتغالية فى أرشيف بلدية أمستردام، بإنذار لكل أبناء وبنات الجالية اليهودية فى هولندا، «ألا يتصل به أحد ولو بالكتابة، أو يعطف عليه أو يقيم معه تحت سقف واحد، أو يقترب منه إلى مسافة تقل عن أربع أذرع».

●●●

اعتبر المؤرخون هذا الحكم من أقسى الأحكام التى أصدرتها قيادة يهودية على أحد أبناء الجالية السفردية البرتغالية، الأمر الذى آثار فضول الكثيرين لفهم الأسباب الحقيقية وراء الحكم. كانت عادة القيادات الدينية أن تصدر قرار «التحريم» على من يقصر فى أداء الفروض والواجبات الدينية مثل عدم الانتظام فى زيارة المعبداليهودى التابع له، وعلى من يثبت عليه أنه لعب القمار أو مارس الرزيلة، وعلى أى يهودى يدخل فى جدل دينى مع شخص غير يهودى، وعلى امرأة يهودية قصت شعر أخرى غير يهودية، وعلى كل من تخلف فى دفع الضريبة اليهودية. جرت العادة على أن من صدر عليه حكم بالتحريم يستطيع طلب الغفران، وفى معظم الأحوال يحصل عليه. أما قرار تحريم سبينوزا فكان حاسما فى رفض أى طلب للتوبة والغفران. وعلى كل حال لم يطلب سبينوزا التوبة أو الغفران أو العودة إلى الديانة اليهودية.

●●●

لم يعثر الباحثون على وثيقة واحدة تحدد ماهية «الأعمال الشريرة» التى اتهم بارتكابها سبينوزا ولا البدع الشنيعة، فضلا على أن سبينوزا نفسه لم يكتب عن هذا الإعلان. ومع ذلك فقد اجتهد بعض المؤرخين بتقديم روايات بغرض التفسير، ولكنها فى الحقيقة لم تضف سوى الغموض فوق غموض. قيل مثلا إن القيادة اليهودية عاقبته لأنه تجاسر، وهو شاب صغير فذهب إلى السلطات الهولندية يطلب تسجيله يتيما ليتخلص من ديون ورثها عن والده. هذا التصرف ما كانت لتسكت عنه قيادة الجالية لأنه من صلب اختصاصها إذ كان من غير الجائز ليهودى فى ذلك الوقت أن يستقل بقرار فى شأن أصله ونسبه وعلاقته بالدولة التى يعيش فيها.

●●●

المعروف أن سبينوزا لم يطرح أفكاره الفلسفية عن الأديان والخليقة إلا بعد سنوات من طرده من اليهودية. فعلى سبيل المثال كتب يرفض فكرة اليهود كشعب مختار. وكانت حجته كافية لإثارة غضب رجال الدين عموما فى هولندا وخارجها، إذ قال إن الإله لا يختار لأنه لا يعرف كيف يختار. ولن يستطيع حتى لو عرف، لأن الخالق والطبيعة حسب فلسفته شىء واحد لا ينفصلان. والطبيعة، بطبيعتها، لا يمكن أن تختار أو تميز. ثم أنه آثار غضب المتدينين عموما على اختلاف الأديان السماوية حين رفض قاعدة «أبدية الروح» وفكرة البعث والعالم الآخر، وظل يردد مقولة أن أنجيل اليهود جرى صنعه وصياغته على أيدى بشر على مدى عقود وقرون.

●●●

تردد أن سبينوزا سئل ذات يوم عن رأيه فى قرار الحاخاميين طرده من اليهودية، فقال ما معناه «لقد وفروا على أن أتخذ القرار بنفسى وأتسبب لهم فى فضيحة، أما وقد أرادوها على هذا النحو، فيهمنى الإعراب عن سعادتى وأنا أدخل بسرور فى طريق انفتحت أمامى، معزيا النفس أن رحيلى عن اليهودية سيكون أكثر براءة من رحيل العبريين القدامى من مصر فى الأزمنة القديمة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved