الأساطير لا ترحل

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 18 سبتمبر 2016 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

بدت «سارميللا بوز»، مديرة كلية الصحافة فى جامعة أوكسفورد، مأخوذة بحضور الأستاذ «محمد حسنين هيكل» المشهد الافتتاحى لأول كلية تنتمى إلى صناعة الإعلام بأعرق الجامعات البريطانية.
بأثر مما قرأت وسمعت وتابعت غلبتها مشاعرها، كأنها لا تكاد تصدق أنه أمامها الآن.
عندما طلبت منه التقدم لإلقاء أول محاضرة تذكارية فى الكلية الوليدة وصفته بـ«الأسطورة الحية».
قبل أن يصعد على منصة أوكسفورد وصفه اللورد «كريستوفر باتن»، رئيس الجامعة، المفوض الأوروبى الأسبق، آخر الحكام البريطانيين لجزيرة «هونج كونج»، وأحد الأركان الوزارية فى حكومة «مارجريت تاتشر» بـ«أنه من عظماء الصحافة فى العالم بالنصف القرن الأخير».
وفى لفتة إلى «سارميللا بوز» توافقها على ما ذهبت إليه فى وصف الضيف القادم من العالم العربى أضاف اللورد «باتن»: «لم يسبق لأحد أن وصفنى بالأسطورة الحية، رغم المناصب الكثيرة التى توليتها والأدوار التى قمت بها، لكننى الآن يمكننى أن أترك المنصة لأسطورة حية لتتحدث إليكم».
المشهد بمعانيه ورسائله محفوظ على شرائط.
كان ذلك قبل عواصف التغيير التى هبت على مصر وعالمها العربى، بكل وعودها وإحباطاتها.
لم يكن «هيكل» يميل إلى إطلاق أوصاف الأساطير على البشر، مهما تأكدت قيمتهم وعلت أدوارهم فى ترقية الوعى الإنسانى وفتح صفحات جديدة فيه.
كان يدرك أن «للتحولات التاريخية والفكرية ضروراتها التى تتجاوز دور أى فرد، فالسياق يغلب والحقائق تفرض كلمتها على حركة البشر فوق مسارحه».
«إن إضفاء المسحة الأسطورية على البشر ينزع عن تاريخهم إنسانيته فضلاً على موضوعيته».
فى خضم الأيام الحزينة التى تلت رحيل الرئيس «جمال عبدالناصر» كتب فى «الأهرام» مقالاً أثار جدلاً واسعًا عنوانه: «عبدالناصر ليس أسطورة».
ذات مرة راجعته فيما كتب وقصد إليه، وكانت إجابته: «خشيت فى أعقاب رحيل عبدالناصر، والحزن عميق عليه، من إضفاء طابع كهنوتى على تجربته السياسية والتاريخية، وأن يقف على أبوابها كهان وحراس، فالتجارب الكبرى بنت زمانها، ولدت على مسارحه، وتفاعلت مع تحدياته، نجحت وأخفقت، صعدت وتراجعت، لكنها حدثت فى سياق تاريخ يجرى لا أسطورة تنشدها قرائح شعراء ورواة».
بنص عباراته: «عبدالناصر هو الرجل الوحيد الذى أنا مستعد أن أنحنى أمامه».. و«قيمته تؤكدها معاركه وقضاياه والأحلام التى حملها والمشروع الذى دعا إليه».. و«هذه وقائع تاريخ لا أساطير منسوبة».
التجارب الإنسانية الكبرى تنسب لزمانها ومسارحه المفعمة بالصراعات والتحديات، غير أن تلك التجارب قد تلخصها فى الذاكرة العامة صور ورموز، ثم بمضى الوقت تتلخص هذه الصور والرموز فى بشر، يتحولون فى المخيلة العامة إلى أساطير من لحم ودم، تستند إلى وثائق مثبتة ومعانٍ فى الذاكرة.
لم يمانع الأستاذ «هيكل» بتلك الإضافة فى شرح التاريخ ومعناه.
فى مرة ثانية وصف الزعيم الجزائرى «أحمد بن بيللا» فى رسالة شخصية منشورة بأنه «رجل من زمن الأساطير»، فهو قائد ثورة المليون ونصف المليون شهيد فى زمن التضحيات الكبرى والمعانى الملهمة سعيًا للتحرر الوطنى واكتساب الشعوب المقهورة لحقها فى الحياة، وقد كان ذلك زمن «جمال عبدالناصر».
وفى مرة ثالثة لم يخف انزعاجه مما سمع من شخصيات نافذة فى الحكم وصفت الزعيم الجنوب إفريقى «نيلسون مانديلا»، عند ذهابه إلى قرعة المونديال مدعمًا لملف بلاده فى استضافة المسابقة الكروية الأكثر أهمية وحضورًا ومشاهدة، بأنه: «شوية كراكيب».
قال «هيكل»: «هذا جنون مطبق، قد يكون العمر تقدم والسلطة غادرها، ولكن وراءه أسطورة تلخص واحدة من أعظم التجارب الإنسانية فى مناهضة العنصرية».
فيما روى يومها أن أمين عام الأمم المتحدة الأسبق، الدكتور «بطرس غالى»، حاول أن يقنع الرئيس «حسنى مبارك» بالخروج من سباق تنظيم «المونديال»، الذى كان مقررًا أن تكون لدولة أفريقية، ففاجأه بجملة لم يكن يتصورها: «قل هذا الكلام لجمال»، قاصدًا نجله الأصغر.
بعد ساعات غادر الدكتور «غالى» القاهرة إلى باريس وقطع صلته بأى تحركات مصرية لدعم ملف تنظيم «المونديال».
وقد كان لحضور «مانديلا»، بخلفيته الإنسانية والتاريخية التى تلهم وتثير العواطف، أثر كبير فى فوز جنوب أفريقيا وحصول مصر يومها على أوجع «صفر» فى تاريخها!
فى توقيت مقارب دخل «مانديلا» أحد الفنادق وحيدًا، بلا حراس تقريبًا، فإذا بإحدى العاملات تكتشف من دور مرتفع وجوده فى المكان، أخذت تنادى اسمه فيما يشبه الهستيريا بلا انقطاع.
لم تكن تنادى رجلاً يمشى على مهل بأثر السنين بقدر ما كانت تخاطب أسطورة ألهمت تحررها الإنسانى.
هناك فارق جوهرى بين التفسير الأسطورى للتاريخ، وهو تفسير خرافى يزيف الوعى العام وينال من إدراك الشعوب تواريخها وقضاياها ومعاركها وحقها فى نقد قادتها السياسيين والفكريين دون إضفاء عصمة على تصرفاتهم وأعمالهم، وبين أن نطلق مثلا على معارك بعينها خاضتها أمم وشعوب بأنها ترقى إلى الأسطورة، فالمعنى من ناحية رمزية ينصرف إلى أنها قد أديرت بطريقة أدت إلى تعبئة الموارد السياسية والعسكرية والإنسانية بصورة حققت ــ بأكثر مما كان متوقعًا ــ نتائج حاسمة فى ميادين القتال.
الأسطورة الحية ــ هنا ــ تكتسب مذاق التاريخ وتكتسى بعرقه ودمه وتضحياته.
لا شىء يولد من فراغ ولا موهبة استثنائية تؤكد حضورها دون قدرة على التفاعل مع حقائق الزمن المتغيرة، أن تستوعب بالتجدد وتضيف بالتأثير.
«هيكل» ابن عصره والتاريخ لا يكرر نفسه، وقد شاءت ظروفه أن تدفعه إلى مقدمة المشهدين السياسى والصحفى فى لحظات تحول عاصفة، وأن يكون شاهدًا على ما جرى من تفاعلات وأسرار، وأن تتبدى مواهبه فى وسط العواصف، وأن يطورها إلى آفاق جديدة بعد الخروج من السلطة، ويقال عادة إن الرجل أسلوبه، وأسلوب «هيكل» فى العمل هو صلب أسطورته، بالمعنيين التاريخى والإنسانى.
هو الذى صنع أسطورته الخاصة، لم يأخذها منحة من أحد، ولا حصد ما وصل إليه من مكانة لم يحزها صحفى آخر فى العالم بالقرن العشرين كله بضربة حظ فى ليلة صيف.
لكل وقت حسابه، والانضباط فى مواعيد عمله بلا مثيل، ما له قيمة يدونه على ورق أو يسجله فى محضر حتى يمكن الرجوع إليه بطزاجة اللحظة التى كتب فيها، ولكل وثيقة ثبت فى أرشيف يساعد على استدعائها.
رغم أن الكتلة الرئيسية من أوراقه ووثائقه حرقت فى «برقاش» عند الاعتداء على بيته الريفى عام (٢٠١٣) إلا أن أغلبها نشرها فى كتبه التى أرخت للصراع على المنطقة.
بطبائع الأمور فإن كل ما هو عام يظل عامًا ويخضع للمراجعة والنقد وربما الاختلاف فى محطة أو أخرى.
غير أن ذلك لا يمنع من الإقرار بفرادة تجربته وعمق تأثيره فى حركة الحوادث على مدى عقود طويلة إلى حد يصعب فيه كتابة التاريخ دون الإشارة إلى أدواره الجوهرية بجوار «جمال عبدالناصر» فى رسم السياسات العامة و«أنور السادات» حتى حرب أكتوبر (١٩٧٣) عندما افترقت الطرق.
خارج كل سلطة اكتسب نفوذًا أدبيًا كـ«مرجعية قومية عامة» لم يحظ بها أحد آخر فى التجارب المعاصرة.
فى (٢٣) سبتمبر الماضى أتم الثانية والتسعين من عمره، لم يكن هناك ما ينبئ بأن هذا هو آخر عيد ميلاد.
كما هى حكمة التاريخ دائمًا الرجال يرحلون والأساطير لا ترحل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved