الأحزاب الإسلامية.. مراجعة مغربية

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 18 سبتمبر 2020 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

يعد أ.د/ فريد الأنصارى «أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب جامعة مولاى إسماعيل بمكناس بالمغرب، والأستاذ بدار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط، وعضو رابطة الأدب الإسلامى العالمية، من أهم علماء المغرب ومن أبناء الدعوة الإسلامية منذ ولادتها فى السبعينيات، وعاش معظم تجاربها بدء من الدعوة النقية إلى مرحلة التنظيم والجماعات والتأطير، وانتهاء بالعمل السياسى والأحزاب.
وأجرى مراجعة جريئة للحركة الإسلامية المغربية فى كتابه الشهير «الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب» ونكتفى فى هذا المقال بكلماته الرائعة والدقيقة جدا فى نقده لإنشاء الحركات الإسلامية للأحزاب السياسية، وكيف جنت الأخيرة عليها.
وهذه بعض أقواله الدقيقة فى عرض وجهة نظره فى مسيرة هذه الأحزاب دون تدخل منا، ونترك للقارئ حرية الحكم على التجربة من جهة وعلى أقواله من جهة أخرى.
«لقد كانت تجربة العمل السياسى للعمل الإسلامى بالمغرب فاشلة بكل المقاييس الشرعية والسياسية، بسبب أن الإسلاميين حاولوا قطف ثمرة لم يئن إبان قطافها، فتجرعوا مرارة فاكهة لم تنضج بعد».
«لقد كان بإمكان الحركة الإسلامية أن تكون لها ما أرادت لو أنها أرادت وجه الله حقيقة ولم تستعجل أمرها، إن سر الخطأ لديها أنها استثمرت كل طاقتها فى الهياكل والأشكال دون أن تستثمرها فى الإنسان».
«لقد تضخم التصور السياسى للدين وضمر موقع العبادات من مساجد وصلوات، وصرت تسمع اتهام هذا المتكلم أو ذاك من الدعاة والعاملين للإسلام بأنه صاحب «خطاب وعظى» أو أنه «غارق فى الفقهيات» إنما هى خالصة للخطاب السياسى والتحليل السوسيولوجى».
«شمولية العبادة» التى هى حق أريد به فى بعض الأحيان باطل، ذلك أنها وظفت فى بعض السياقات لإقامة دعاوى خاطئة وإنما قيلت أصلا لتنبيه الغافلين من الزهاد والمنزوين من العباد إلى أن الانخراط فى هموم المسلمين، والانغماس فى شأنهم العام ضرب من العبادة أيضا، ولكن بالتبع لا بالأصالة، وبالدرجة الثانية لا بالدرجة الأولى، وإلا فلا بركة فى حركة تثير النقع فى وغى السياسات، وتشعل الخطب النارية فى نوادى النقابات وأصحابها لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى.
انهار العمل التربوى والدعوى بصورة رهيبة، وضعفت مقاصد التعبد لدى أبنائه، بسبب بروز المغانم السياسية وتطلع ضعيفو الإيمان منهم إلى إغراءاتها المادية، ثم بسبب حماسة العمل السياسى وسرعته، وثقل العمل التربوى على النفس بما يحمل من مغارم وتكاليف.
كانت الأخلاق هى الضحية الأولى التى ذبحت عند قدمى الصنم السياسى وبات الرهان خاسرا فبدل أن يخلق الإسلاميون الحياة السياسية كما زعموا تدنسوا بأوساخها.
لقد جعلت التجربة السياسة بعضهم يناور ضد إخوانه فى الحركة، وينشئ الجيوب والأحلاف ليكون على رأس لائحة الترشيحات البلدية أو البرلمانية، ومنهم من وصل عبر السلم الخلفى إلى رأس اللائحة، كما يصل اللص عبر السراديب المظلمة إلى مكان المجوهرات.
ظهر المتسلقون والانتهازيون فى الصف الإسلامى أيضا، ووصل بعضهم إلى مواقع الصدارة فعلا، فبدأ العمل التربوى يتلاشى، وينهار شيئا فشيئا، وهو صمام الأمان للمشروع كله، حتى انهارت الحركة تماما وأخلت مكانها لصالح الحزب السياسى، وإن بقيت هياكلها الشكلية قائمة.
الإسلاميون بعد إنشاء أحزابهم السياسة أصبحوا يشتغلون فى الشك، وقد كانوا من قبل يشتغلون فى اليقين وكانوا إلى الإخلاص فى الأعمال أقرب، ثم صاروا إلى خلط مبين، فانتقلوا بذلك من مقاصد العبادات إلى مقاصد العادات، ألهاهم التلميع والتسميع، وانخرط كثير منهم فى الحزب على حرف تماما كـ«من يعبد الله علىٰ حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب علىٰ وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين» يكون بـ«اتخاذ العجل» فى قصة بنى إسرائيل.
تطور قرار «المشاركة السياسية»، بشكل سرطانى وباندفاع ذاتى، ودفع من جهات أخرى من مجرد «مشاركة» إلى صورة «تضخم سياسى»، أتى على الأخضر واليابس من منجزات العمل الإسلامى.
اتخاذ حزب سياسى واجهة للعمل الإسلامى بالمغرب هو يوم إعلان وفاة الحركة الدعوية، وبداية العد العكسى المنحدر نحو نهاية العمل الإسلامى الذى فى الأصل هو عمل تجديدى للدين بالدرجة الأولى، والذى لا يقوم، إلا بوجود قوم صادقين يجتهدون أولا فى التخلق بتلك الأعمال فعلا وتركا ولا يكون إلا بأخذ كتاب الله بقوة.
جاء الحزب السياسى فأتى على ذلك جميعا، كما دمر«السامرى» كل الرصيد الإيمانى لبنى إسرائيل، بعد غيبة موسى عندما صنع لهم من الذهب جسدا عجلا له خوار، فظلوا عليه عاكفين.
الاستصنام الحزبى جعل كثيرا من أبناء العمل الإسلامى منشغلين بهموم الناس الدنيوية فقط، ثم جعلوا بعد ذلك لهمومهم الشخصية من تلك الهموم حظا وتدافع الهم الشخصى مع الهم العام فى مقاصد يغلب أحدهما الآخر.
بعد تكوين الأحزاب السياسية انخرطوا فى بناء خطاب مادى بالدرجة الأولى، يحلل الأزمات الاقتصادية ومشكلات البطالة، والرد السياسى على الهجومات الإلهائية، فيخرجون المظاهرات وينظمون المسيرات، ثم يئوبون فى المساء إلى مواقعهم سالمين، مطمئنين إلى أنهم قد أنجزوا من«النضال» ما يشفع لهم عند الله يوم القيامة، ونسوا القضية الكبرى: قضية الإنسان مع خالقه، ومصيره فى آخرته.
إن تجديد الدين قائم أساسا على تجديد علاقته بالناس بإحياء التداول الإنسانى للقرآن الكريم وحقائقه الإيمانية والخلقية، وقد تم وللأسف نسيان هذه الحقيقة.
إن التداول الاجتماعى للقرآن على سبيل التربية والتزكية، والتعلم والتعليم لأحكامه وحكمه كفيل بالإحاطة بالرسالة الدعوية على التمام، تلك هى الرسالة التجديدية التى وجب أن يحملها رجال الحركة الإسلامية ويطرقوا بها كل باب من المدارس إلى المتارس.
لقد أدخلت الحركة الإسلامية بعد تكوينها للأحزاب نفسها مع الأسف فى جحر الضب وسجنت كل إمكاناتها فى قارورة الحزب السياسى، فحجرت على نفسها ما وسعه الله، وصارت تخاطب الناس ويخاطبونها على أنها حجر من أحجار لعبة الشطرنج.
إن ظروف المغرب وطبيعته المغايرة لكثير من بلدان العالم العربى والإسلامى لا تتحمل أبدا وجود حركة إسلامية فى ثوب حزب سياسى.
كان بإمكان الحركة الإسلامية بالمغرب أن تصل إلى أفضل النتائج السياسية دون أن تتخذ لها حزبا لو أنها اشتغلت كقوة دينية دعوية، حاضرة برجالها وأفكارها فى كل ميدان منتشرة فى كل قطاع.
وخلص د/ فريد الانصارى إلى الآتى حينما قال: «لن أكون مبالغا إذا قلت: إن اتخاذ «حزب سياسى» كان أكبر خطيئة وقعت فيها الحركة الإسلامية بالمغرب».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved