العنف أم الموسيقى

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 18 سبتمبر 2020 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

من أجمل ما قرأت رواية بعنوان «الجنرال» تأليف آلان سيليتو ترجمة عبدالعزيز عروس وقدم لها ممدوح عدوان.
تحكى هذه القصة عن قيام حرب ضروس بين دولتين، ترسل إحداهما فرقة موسيقية إلى الجبهة للترفيه عن جنودها، لكن ما حدث هو أن هذه الفرقة وهى فى طريقها إلى ميدان الحرب، سقطت فى كمين مُحكم فى يد الأعداء، وهنا أُسقط فى يد الضابط الذى أسَرهم فماذا يفعل قائد فى ميدان قتال بفرقة موسيقية ترفيهية تابعة للأعداء؟، فهم ليسوا جنودًا وليس معهم أى عتاد حربى، فهم مدنيون رقيقو المشاعر يستمتعون بالعزف ويسعدون من يستمع إليهم وكل ما يرجونه هو التشجيع والتصفيق فى نهاية عزفهم وذلك لأن تعاملهم مع الموسيقى والغناء فقط لا غير، وهو عالمهم المفضل، البعض منهم كبار فى السن والبعض الآخر من هو غير لائق صحيًا، وبالطبع جميعهم لا علاقة لهم بالحرب الضروس الدائرة، وغالبًا هم ضد هذه الحرب لأنهم فنانون مشاعرهم رقيقة وحسهم مُرهف، لكن كانت المفاجأة للقائد الذى أسرهم أن جاءه أمر من قادته أن يعدم أفراد الفرقة الموسيقية، لكن فى مثل هذه الأحداث غير المتوقعة يكون هناك شغف للحوار، فلقاء العسكريين بالفنانين أمر نادر فى ظروف مثل هذه، وبالتالى وقبل تنفيذ حكم الإعدام، حدثت محاورات مطولة بين قائد الحرب وقائد الفرقة الموسيقية. وهنا نتوقع ــ عزيزى القارئ ــ أن نستمتع بحوار رائع متميز غريب على أسماعنا، خاصة نحن الذين يعيشون فى الشرق الأوسط السعيد، والشرق أوسطيين يدَّعون الإيمان والتدين، ومنهم عدد ليس بقليل يَعتبر الموسيقى والغناء رجس من عند الشيطان.

***

وأنت تقرأ ــ عزيزى القارئ ــ المحاورات المطولة بين قائد الحرب وقائد الفرقة الموسيقية يتضح لك الفارق البعيد والعميق والضخم بين الموت والحياة، اليأس والأمل، الدمار والرجاء، التوحش والبراءة، لكن المشكلة العميقة أن قائد الحرب كان مقتنعًا تمامًا أنه على صواب، وأنه يقوم بالدور المنوط به فهو يقوم بدور وطنى شريف، لا يقل عن دور قائد الفرقة الموسيقية، إن لم يزد فهو يحمى وطنه من الأعداء، ويحمى الفن والموسيقى، ويحمى الأطفال والعجائز، وهنا طرح قائد الفرقة الموسيقية فكرة على القائد الحربى العدو: لماذا لا يسمع عزفهم قبل أن يقتلهم؟ وبعد لحظة تفكير وافق القائد على الفكرة، وطلب منهم أن يعزفوا للضباط والجنود الذين معه، على أن يؤجل إعدامهم لمدة يومين.
من الحوار الذى دار بينهما يقول الجنرال مبررًا أهمية الحرب: «إن الحرب أيضًا فن راق، وإدارة الجبهة مثل قيادة السيمفونية، أنت تعرف ــ موجهًا كلامه للقائد الموسيقى ــ أن الآلة الفلانية فى اللحظة المناسبة عليها أن تنطلق أو تساهم فى العزف، وأنا أعرف أنه فى اللحظة المناسبة سينطلق المدفع الفلانى أو الدبابة الفلانية. أنا أيضًا أسمع سيمفونية من هنا وأدير أوركسترا».
فى هذا الجو من الحوار العميق والفلسفى يدين المؤلف ذلك العنف الذى تمارسه الإنسانية ضد بعضها بعضا، فهل سيتمادى الجنرال فى موقفه النبيل ويجعل الفرقة الموسيقية ترحل بعد أن تعزف له الموسيقى؟! هنا يعلق الكاتب فى هذا الحوار بالقول: «لو سطعت شمس حمراء دافئة، ولمدة ألف عام متوالية، فإن ذلك لن يكون كافيًا لإنهاء الحروب فى العالم ولا حتى تقليلها»، هذا فضلًا عن مئات السنين لإزالة آثار هذه الحروب من تشريد للبشر ومجاعات وتعميق الأحقاد، وتسابق التسلح... إلخ.
قرر الجنرال أن يستدعى المايسترو للنقاش، وما إن بدأ الحوار حتى اكتشف كل طرف أنه لا يفهم عمل الطرف الآخر، ولا يستوعبه، ما جدوى الموسيقى؟ سأل الجنرال، أجاب المايسترو: وما جدوى الحرب؟!
أحس الرجلان رغم التباين فى وجهات النظر بتشابه فيما بينهما، فكل منهما يقود مجموعة من الرجال، ويتحكم فى أدائهم ويعطى الأوامر لهم، شعر الاثنان للحظة أنهما التقيا من قبل، كما أن كلًا منهما لمس وراء مظهر الآخر الكثير من المشتركات.
كان الفنان قد وجد نفسه فى مواجهة أخطار لم يعهدها من قبل، فهو هنا فى مواجهة قوة عقيمة جاهلة وجدت نفسها فى غفلة من الزمن قادرة على تدمير شيء عجزت عن فهمه وإدراكه (روعة الموسيقى ودورها الإنساني)، كما أن الجنرال وجد نفسه، فى مواجهة الفن والحياة، فى مواجهة الموسيقى، فبدأ يتساءل ما جدوى الحرب؟ ولماذا هو هنا فى هذه اللحظة؟ وماذا لو أنه فتح لهذه الفرقة المسالمة العاشقة للحياة مسارًا للهرب؟ هل يستطيع هو الآخر أن يهرب وينجو بروحه، كذلك كان القائد الموسيقى يتأمل الحرب من حوله ويخلص إلى نتيجة أنه إذا كانت هناك صراعات ومنازعات فكرية، لماذا لا تُحل بالطرق السلمية، لكن الذى فى الميدان الآن فقط قوة عمياء انطلقت من عقالها تدمر فى شكل عشوائى، كل من يقف فى طريقها.
طرح الجنرال وجهة نظره فى الحرب قائلًا: «يمكنك أن تضع كل نظريات العالم وأفكاره داخل الأرض وتنسفها بالديناميت. غير أن شيئًا واحدًا لن يصيبه الدمار، ألا وهو «سلطة القوة» وسيطرة أمة على أخرى، قوة وسلطان أمة بسيطة يأكل فيها الكلب أخاه، تجابه أمة يُقاتّل كل من فيها فى سبيل ما يسمونه الحياة. إن بلادى تحارب بكل شراسة وجنون لتحطيم بلادك واحتلالها، كما أن بلادك تستنزف دماءها عن آخرها سعيًا لتحطيم بلادى. أنتم تسمونها حرية، ونحن نسميها بقاء، إننى كجندى لا أهتم كثيرًا بالفارق بين هاتين المسألتين. إننى أسمى الحرب فنًا ليس إلا». أجاب الفنان قائلا: «أنا لا أؤمن بالحرب بصرف النظر عن المشاكل التى قد تحلها. فالمشاكل التى قد تحلها الحرب بالنسبة لى ليست مشاكل مشروعة بأية حال».

***

بلا شك هذه الرواية ترصد قسوة الحروب وقد تعمّد الكاتب ألا يعطى تفاصيل عن جبهة القتال والجهات المتصارعة، وهذا ما يجعل أحداثها قد تنطبق على أى حرب.
بعد حوار طويل بين الجنرال والفنان ينجح الحوار فى أن يحدث تغييرًا ما فى نفس الجنرال الذى وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الفن ويرغمه على نبش ذاكرته والعودة إلى سنوات طفولته وسماعه للموسيقى وشغفه بها. فيطلب من الفرقة أن تعزف ألحانًا له ولجنوده كان يسمعها فى طفولته وشبابه مع أسرته، ثم بعد ذلك مع حبيبته، ثم بيته الخاص وعائلته الخاصة، لكن الفرقة رفضت فى البداية أن تفعل ذلك، ثم بدأت فى العزف بقوة واحترافية ودقة غير مسبوقة منهم، فإذا بالعزف يزلزل المكان والأنفس حتى أسقط ما تبقى من حواجز بين الجنرال وأسراه، فقال بصوت مرتفع موجهًا كلامه للقائد الموسيقى «أنت تعزف سيمفونية الحياة أما أنا فأعزف سيمفونية الموت».
لقد نجح الحديث فى إيقاظ روح الجنرال وبدأ الشك يتسرب إليه فى شأن جدوى الحرب، وعدم إنسانية الحياة التى يحياها، حتى وصل الأمر به إلى عصيان أوامر قادته.
هذه الرواية تكشف تعقيدات النفس البشرية، والصراعات التى تجلبها الحروب وهو أن الروح التى ترتضى لنفسها أن تكون مجرد آلة من آلات الدمار والموت، ولكنها تكشف بحيادية وقوة أيضا قابلية التغيير حتى لمن احترف القتال وعايش صناعة الموت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved