سيادة الشعب والعقبات فى طريقها

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 18 أكتوبر 2015 - 8:05 ص بتوقيت القاهرة

السيادة للشعب وحده يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات...» هذه العبارة وردت فى مستهل المادة الرابعة من الوثيقة الدستورية الجديدة التى عدلت دستور ٢٠١٢ المعطل فى يوليو ٢٠١٣ وحصدت ٩٨.١٪ موافقة من الجمهور الذى شارك فى استفتاء يناير ٢٠١٤.

مبدأ «سيادة الشعب» هو مبدأ قانونى وسياسى، تأخذ به معظم الدساتير الحديثة، ورغم الصعوبات الجمة المتعلقة بتعريفه أو بتحديد وسائل تطبيقه على أرض الواقع، إلا أنه أصبح من المبادئ الراسخة فى النظم الديمقراطية.

فى مصر يتمتع مبدأ سيادة الشعب بشهرة واسعة على مستوى البيان، لكنه يتعرض لعثرات كبيرة عند التطبيق، رغم أن الوثائق الدستورية المصرية قد حرصت دائما على تأكيد هذا المبدأ، إلا أن الواقع المصرى دائما ما وقف ضده مستخفا بالشعب وممكنا أولى الحظوة والسلطة من مصادر السيادة والهيمنة، واضعا الشعب دائما فى خانة التابع لا المستقل.

رغم صعوبة وضع تعريف نظرى للمفهوم، بسبب التباس مفردات مثل «السيادة» و«الشعب» إلا أنه يمكن وضع خمسة مؤشرات رئيسية لقياس هذا المفهوم على أرض الواقع، بعبارة أخرى تتحقق سيادة الشعب عندما:

أولا: يتمكن الشعب بكافة طوائفه من كتابة دستور وضعى يعبر عن التنوع العرقى والثقافى والاجتماعى له، من خلال ممثلين يقيمون حوارا مجتمعيا واسعا قبل الانخراط فى كتابة هذا الدستور، بحيث يحرص هذا الأخير على تمكين الشعب ووضع مبادئ أساسية لا تميز بين فئات الشعب أو تضع إرادة الأخير تحت أى رقيب إلا فى إطار التوازن بين مفاهيم ومبادئ الحق والواجب.

ثانيا: تتحقق النيابة الشعبية من خلال اختيار مجلس تشريعى ممثل لفئات الشعب المختلفة، وفقا لقوانين انتخابية عادلة توفر فرص للمنافسة الحقيقة لا قوانين «مطبوخة» لتمكين فئات بعينها، يتمكن هذا المجلس من رقابة السلطة التنفيذية من ناحية ومن صناعة تشريعات متوافقة مع الدستور ومحققة لمصالح الشعب الذى تمثله هذه السلطة من ناحية أخرى.

ثالثا: تتواجد سلطة قضائية مستقلة ومحايدة غير تابعة لأى مصلحة اقتصادية أو أيدولوجية سياسية تتمكن من فصل المنازعات بين أفراد الشعب ومؤسساته وهى فى ذلك تبقى عيننا على مدى دستورية التشريعات والقرارات التنفيذية منتصرة للدستور إذا ما تعرض لأى انتهاك من أى سلطة أو مؤسسة أو جماعة مصلحة.

رابعا: تتاح لهذا الشعب حرياته المدنية من خلال عدم المساس بحقوقه فى التجمع السلمى والتنظيم والاعتقاد والاعتراض والرقابة والإبداع بكافه صورة، وهو ما يتحقق بدوره فقط عندما يتاح للمجتمع المدنى حق تنظيم نفسه أمام سلطة النظام وبدعم من المؤسسات التشريعية والقضائية والرقابية.

وأخيرا: يحصل الشعب على حقه فى تعليم مناسب ومجانى، فى نظام صحى تكفله الدولة يوفر للشعب وسائل التداوى ومن قبله بيئة صحية للعيش الكريم، فى نظام اجتماعى يوفر خدمات ما بعد التقاعد أو عند فقد العائل أو العمل لأسباب وظروف قهرية، فى بنية تحتية متطورة وقادرة على توفير حد أدنى من معيشة آدمية لهذا الشعب، وأخيرا فى توفير أمن للشعب على مستويات نفسية وبشرية ومادية وجنائية، بحيث تكون الأجهزة الأمنية هى أجهزة أمن الشعب لا أجهزة أمن السلطة!
***

ورغم أن السيادة الشعبية بهذا المعنى تتحقق بدرجات متفاوتة حتى فى الدول الديمقراطية فى ظل انتقادات متصاعدة لتدهور الأخيرة على مستوى العالم، إلا أن مصر لم تشهد أصلا سيادة شعبية فى أى فترة من تاريخها، باستثناء أشهر معدودة بعد ثورة يناير كانت فيها الآمال عريضة والسيادة بادت وكأنها قريبة المنال، لكننا عدنا سريعا إلى نقطة الصفر، وعلينا أن نفهم أننا أمام خمس عقبات كبرى تحول بيننا وبين تحقيق السيادة الشعبية وهى:
•يقف البناء السلطوى الحالى ضد أى أمل فى تحقيق سيادة الشعب، فهو بناء شمولى قائم على تأليه شخص الرئيس وعدم مراجعته أو محاسبته، قائم على تغول السلطة التنفيذية على النيابة الشعبية وعلى عملية التشريع والتنفيذ مع غياب أى معايير واضحة للرقابة أو الشفافية أو المحاسبة، قائم على خطاب سياسى رسمى انفصل تماما عن الواقع منغمسا فى تصريحات للاستهلاك المحلى لا تسمن ولا تغنى من جوع.

•تقف الأجهزة الأمنية، وفى قول آخر «السيادية» عثرة أمام تحقيق مبدأ سيادة الشعب، فهى تنظر للأخير كتابع ليس أكثر ولا أقل، الشعب فى نظر هذه الأجهزة هى جموع تأكل وتشرب وتنام وتتكاثر لإنجاب مزيد من الجموع التى تمثل عبئا على الأجهزة والتى أصبح شغلها الشاغل كيفية التحكم فى هذه الجموع عن طريق إخافتها وسلب حقوقها ودفعها دفعا نحو التقوقع والانشغال بأكل العيش حتى ينتهى عمرها بين كفاح أكل العيش وأمراض الجسد بلا أى أثر حقيقى على المجتمع. أجهزة أمنية نجحت فى فرض سطوتها ومنطقها وسياستها على السلطة والمجتمع على السواء، فتنحت السياسة لصالح الأمن الذى أطاح ويطيح وسيطيح بالجميع وفى مقدمتهم الدولة نفسها.

•يقف الإعلام المصرى أيضا كعقبة رئيسية أمام تمكين الشعب وسيادته، فالغالبية العظمى من برامجه تحولت لوصلات ردح، لفزاعات وظيفتها إخافة الناس من مجهول يتحكم فى البحار والجبال وطبقات الأرض والعقول، لأبواق لبث الكراهية والجهل والسفه بين الناس حتى تم استقطاب المجتمع المصرى بالكامل وسلبت إرادته لحساب مصالح ضيقة تتحدث باسمه فى الظاهر وتحتقره فى الباطن.

•بدورها لم تتأخر المؤسسات الدينية ورجال الدين وعلماؤه عن القيام بدورها المقدس لنصر إرادة الحاكم الفرد على إرادات الناس ملتحفة بغطاء الله والرسول. فالغالبية العظمى من المتحدثين الحصريين باسم الله حولوا المساجد والكنائس لمنابر طيعة للسلطة، بدلوا الله بالحاكم والحاكم بالله، بحيث يختلط عليك الأمر ما إذا كان هناك فرق بين إرادة الحاكم وإرادة الله. أم أن الإرادتين اتحدتا ضد ارادة الشعب فى ظل ممارسة طقوس تدعى القدسية، بينما هى فى الواقع دنست بفعل الانحيازات الدنيوية للقائمين عليها إلا من رحم الله.

•وقطعا تأتى جماعات المصالح الضيقة التى كونت شبكات بين كل العناصر سالفة الذكر «رجال سلطة، رجال أمن، إعلاميين، علماء دين» بالإضافة إلى مجموعة من المثقفين والأكاديميين الذين يقدمون خدماتهم البحثية والتحليلية وقدراتهم البيانية فى سلب إرادة الشعب لصالح الحاكم ومن حوله متخفين وراء عبارات الوطنية المتشنجة ومفاهيم الأمن القومى المغلوطة. فى أوج قوة السلطة «أى سلطة» تجدهم صقورا متحدثين عن خوفهم على «الدولة» وانحيازهم «للوطن»، وإذا ما ارتخت السلطة أو ظهرت بعض بوادر ضعفها تجدهم حمائم ينتقدون السلطة بحرص نافضين أيديهم عن تأييدها المطلق تحسبا للمستقبل، وإذا ما ظهر فى الأفق تغيير وشيك تجدهم أول من يقفز من سفينة السلطة الساقطة إلى سفينة السلطة القادمة منظرين للأوضاع الجديدة بنفس الحماس والجدية و«الوطنية».
***

غبار كثير انقشع بعد معارك كثيرة حجبت حقيقة ترتيبات ما بعد الثلاثين من يونيو، تظهر الحقيقة عارية بشكل تدريجى، هناك من يراها وهناك من يتعامى عنها، لن يغير كل ذلك من الواقع المؤلم، تنزلق مصر سريعا إلى الهاوية فى ظل أزمات اقتصادية وسياسية وثقافية ومجتمعية مع تهديدات خارجية شديدة التعقيد، لن يفيدنا كثيرا لعب دور عراب القوى الدولية ولن تشفع لنا الحرب ضد الإرهاب ولا التخفى وراء حملات وهمية على الفساد أو طقوس ودروشة رجال الدين أو الأحاديث المعسولة عن المستقبل الوردى فى دفعنا بعيدا عن المنحدر الذى نسير تجاهه بشدة ونتظاهر بأننا لا نراه!

لا أمل فى تجنب مصير مظلم ومؤلم لبلادنا إلا بإجراءات تصحيحية جذرية تبدأ بإصلاح حقيقى لهيكل النظام الحالى وهندسة تحالفاته، ينطلق نحو مصالحة مجتمعية شاملة مع تطيبق القانون بحيدة ونزاهة وحزم على كل من ثبت تورطه فى أعمال إرهابية ضد الدولة وشعبها ومؤسساتها بعيدا عن تصفية الحسابات السياسية مع محاسبة كل مسئول تورط فى الاعتداء على حقوق المواطنين وحرياتهم. سيأتى الإصلاح عاجلا أو اجلا، إما بخيار من السلطة الحالية مع استعداها لتقديم تنازلات مؤلمة على حساب بعض شركائها، أو بالرغم عنها بتحولات داخلية ثورية أو بانهيارات مفاجئة فى النظام الإقليمى! كل يوم يمر يخصم من رصيد التحالف السلطوى الحالى ويدنو بالبلاد نحو مزيد من الأخطار، فمتى وكيف يتوقف كل ذلك؟ تظل الإجابة مفتوحة وكل الاحتمالات ممكنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved