الإرادة الحربية الساداتية

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 18 أكتوبر 2021 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

يُعرف الرجال بحسن صنيعهم، ويتمايز القادة بحسم وسداد قراراتهم، خصوصا فى أوقات الأزمات وزمن الشدائد والملمات. وقد وضعت المشيئة الإلهية الرئيس الراحل أنور السادات فى بيئة قرارية غاية فى القسوة والتعقيد، اضطُر، تحت وطأتها، لاتخاذ قرارات حتمية ومصيرية فى آن. فكانت إما أن تعلو بذكره، دائما أبدا إلى عنان السماء، أو تهوى به فى الدرك الأسفل من غيابات التاريخ.
ولما كانت تتصدر قائمة التدابير الأخطر عالميا، جراء ما تستتبعه من أصداء ممتدة وعميقة الأثر على حاضر الأمم ومستقبل الأجيال، فقد غدت قرارات الحرب من أهيب وأصعب الخطوات، التى تقدم عليها قيادة مدنية أو عسكرية فى أية دولة، لكن السادات المقدام، أبى إلا أن يقبل التحدى، ويمضى، بشجاعة وإصرار، وسط العواصف، معتصما بإرادته الحربية، وملتمسا غد أفضل لوطنه وأمته.
بقرار عبقرى، اتخذه فى يوليو 1972، لإنهاء مهمة المستشارين، والخبراء، والوحدات العسكرية السوفيتية فى مصر، استهل السادات دربه العسير نحو العبور العظيم. فشأنه شأن قرارات استراتيجية عديدة فارقة، لم يحظ ذلك القرار بما هو أهل له من الاهتمام والدراسة والبحث، سواء لجهة آليات صنع واتخاذ القرار، أو ما يخص تأثيره على جهوزية القوات المسلحة المصرية لمعركتها الحتمية لتحرير سيناء. ناهيك عن حسابات الدول الصغيرة والمتوسطة فى تسيير علاقاتها مع القوى العظمى إبان سنى الحرب الباردة، وانعكاس توازنات القوى وفجوة الإمكانات بين القطبيين العالميين، كما اختلاف طبيعة وخصوصية علاقاتهما بالدول الأصغر، على مستويات وحدود الدعم الذى يغدقه الكبارعلى حلفائهم الصغار.
فبعيد أربعة عشر شهرا على قرارات مايو 1971 التصحيحية الجريئة، التى أعادت هيكلة نظام الحكم، وحررت البلاد من سطوة مراكز القوى، استدعى السادات السفير السوفيتى لدى القاهرة، آنذاك، فينوجرادوف، فى الثامن من يوليو 1972، وطالبه بترحيل الخبراء السوفييت فى غضون أسبوع. ولقد برر الرئيس الأسبق قراره، الذى شكل صفعة موجعة لموسكو، بينما أثلج صدور الغرب وإسرائيل، فيما أقلق بعض القادة العسكريين المصريين، بحرصه على تبصير العالم بأن انتصار أكتوبر المجيد إنجاز مصرى خالص. وكأن السادات، ببعد نظره، قد تنبأ باجتراء بعض الدوائر الروسية، بعد رحيله بأربعين عاما، على أن تنسب لنفسها دورا مزعوما فى ذلك النصر المصرى المؤزر. ولكم أعرب السادات عن بالغ استيائه من تقاعس السوفييت عن تزويد مصر باحتياجاتها الملحة من السلاح، مما عطل قراره بشن الحرب، وتسبب فى إحراجه أمام شعبه الساخط، فى الوقت الذى لم يكن المستشارون العسكريون السوفييت يرعوون عن الزهو بأياديهم البيضاء على المصريين، فيما تستبد أوهام الهيمنة بسفيرهم لدى القاهرة.
يعتبر رهط من الخبراء أن قرار السادات كان استراتيجيا، بكل المقاييس، كونه قد خوله تحقيق غايات ثلاث:أولاها، تجنيب البلاد والعباد تبعات سلبية عديدة لبقاء الخبراء السوفييت، كانت كفيلة بهتك سرية التخطيط العسكرى، وتقويض استعداد المحاربين للحرب الوشيكة. وثانيتها، تمكين الرئيس من تحقيق مقصده المبطن، والمتمثل فى مغازلة الغرب كيما يبدى شيئا من الحياد التكتيكى، إبان العمليات العسكرية، وما تمخضت عنه من تفاهمات ومفاوضات، مهدت بدورها السبيل لاستعادة مصر كامل سيادتها على مجمل أراضى سيناء، خصوصا بعد البلاء المبهر الذى أبلاه الجيش المصرى فى ميادين القتال. أما ثالثتها، فتتجلى فى توظيف السادات البارع والمرحلى لقراره المثير، ضمن خطة الخداع الاستراتيجى، التى استبقت معركة الكرامة، ما مكنه من تضليل إسرائيل وحلفائها، عبر إيهامهم بعدم اعتزام مصر القيام بعمل عسكرى موسع لاستنقاذ كبريائها، واسترداد أرضها المغتصبة، ولو فى المدى المنظور على الأقل.
بدهاء يُحسد عليه، ارتضى السادات ألا تكون مغادرة الخبراء الروس فى يوليو 1972، تعسفية إلى حد يستتبع القطيعة. فمن بين زهاء 15 ألف مستشار وعامل بالوحدات العسكرية السوفييتية، انحصر إجمالى المغادرين فى 7014 فقط، إذ ظلت مجموعات أخرى تعمل ضمن صفوف القوات المسلحة المصرية، فيما تمخضت زيارة عزيز صدقى رئيس الوزراء، حينئذ، لموسكو بعدها بثلاثة أشهر فقط، عن نتائج مرضية. فعلى إثرها، تعهد السوفييت بمنح مصر أسلحة حديثة، كأسراب مقاتلات «ميج 23»، و«سوخوى 20»، ومنظومات مراقبة ورادار متطورة، ولواء صواريخ سطح ــ سطح بمدى 300 كم، وطرازات حديثة من صواريخ «سكود»، برفقة طواقم فنية ظلت فى مصر طوال مدة حرب أكتوبر. وفى مؤلفه المعنون: «حرب أكتوبر1973.. دراسة ودروس»، الصادر عام 1989، أكد الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية الأسبق، أن قرار السادات الخطير، لم يحل دون التزام السوفييت بتنفيذ اتفاقات التعاون والصداقة، التى تم توقيعها مع مصر فيما مضى، والوفاء بوعودهم المتعلقة برفع القدرة الدفاعية لجيشها، عبر استكمال جميع اتفاقات التسليح المبرمة. ومن ثم، استمر توريد السلاح السوفييتى إلى مصر حتى يناير 1975.
ليست قرارات الحرب بالهينة على أية قيادة أو أمة؛ خصوصا إذا ما قُدِر لها أن تكابد انتكاسات مروعة كتلك التى حاصرت المصريين عقب الهزيمة الكارثية فى حرب يونيو 1967. ولما كان معيار تقويم أية حرب، ومقياس النصر فى أية معركة، يعتمد، فى الأساس، على مدى تحقيق الأهداف المرجوة من خوضها، مقارنة بمآرب العدو ومقاصده، يحق لنا الادعاء بأن مصر قد أدركت مراميها من حرب أكتوبر 1973. فمن جهتها، كانت أغراض إسرائيل المعلنة قبيل الحرب تتلخص فى منع المصريين من عبور قناة السويس، واستبقاء خط بارليف لحماية وتحصين التموضع الإسرائيلى فى سيناء ضد أية هجمات، حتى يتسنى لإسرائيل تأبيد احتلالها لأرض الفيروز، وإرغام المصريين، فى المقابل، على إعلان الاستسلام، أو الرضوخ لاستمرار حالة اللاحرب واللاسلم. وتوسلا لبلوغ تلك المآرب، اقترح قادة عسكريون إسرائيليون توجيه ضربة إجهاضية وقائية ضد القوات المصرية لشل قدراتها على التحرك ضد إسرائيل فى قادم الأيام. وهى المخططات التى تحطمت جميعها على صخرة المبادأة الاستراتيجية المباغتة والجسورة للقوات المصرية.
أما بخصوص الأهداف المصرية، التى حددها السادات وقادة الجيش، حسبما ورد فى نص قرار الحرب، الذى سطره السادات بنفسه، ووقعه فى الخامس من أكتوبر1973، فقد تمثلت، وفقا للتوجيه السياسى العسكرى لوزير الدفاع المشير أحمد اسماعيل مطلع ذات الشهر، فى: كسر وقف إطلاق النار، عبر تفكيك الجمود العسكرى المعروف بحالة اللاحرب واللاسلم، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والعتاد، وتحرير الأرض على مراحل متتالية، وفقا لتطور قدرات القوات المسلحة. وبشهادة القاصى والدانى، تمكن المصريون من نيل تطلعاتهم التاريخية والمشروعة من حربهم العادلة، التى أحاطت بها التطورات الدرامية المثيرة، ولاحقتها التدخلات الخارجية المغرضة، فيما لم تسلم من المهاترات والأباطيل، حيث لم تتوقف آلة العدو الدعائية عن التفنن فى اختلاق التُراهات وافتراء الأكاذيب، للانتقاص من عظمة الإنجاز المصرى الذى بلغ مستوى الإعجاز.
لئن كان الكاتب والروائى الكولومبى الأشهر، والحائز على جائزة نوبل فى الآداب عام 1982، جابرييل جارسيا ماركيز، يقول: «إن إعلان الحرب أسهل من إنهائها»، فقد أورد السادات، فى سفره، الذى صدرت طبعته الأولى عام 1978، والمعنون: «البحث عن الذات»، الدوافع القهرية التى حملته على إخطار الرئيس حافظ الأسد يوم 19 أكتوبر1973، باضطراره إلى قبول وقف إطلاق النار، الذى لم يدخل حيز التنفيذ على الجبهة المصرية فعليا إلا فى 28 أكتوبر من ذات العام. فوفقا لروايته، خشى، رجل الحرب والسلام، على جيشه المغوار من تكرار السيناريو المأساوى، الذى ألم به إبان حرب يونيو 1967، لاسيما بعد أن انخرطت الولايات المتحدة فى حرب أكتوبر إلى جانب إسرائيل، متوخية تحويل هزيمتها المحققة إلى نصر مصطنع، مستلهمة تجربتها، قبل ثلاثة عقود خلت، مع الحلفاء على جبهتى ألمانيا واليابان، إبان الحرب الكونية الثانية.
فاستخباراتيا، وعلى عكس الاتحاد السوفييتى، الذى ضنَ على مصر بأية معلومات كانت أقماره الاصطناعية، التى تعكف على متابعة المعركة عن كثب، تبثها على مدار الساعة، كان القمر الاصطناعى الأمريكى يمد الإسرائيليين بالمعلومات الدقيقة حول تفاصيل الجبهة المصرية أولا بأول، حتى أنه زودههم بصور انتقال الفرقة المدرعة 21 من الضفة الغربية للقناة إلى ضفتها الشرقية، ضمن خطة تطوير الهجوم، لتخفيف الضغط على الجبهة السورية، استجابة لإلحاح الأشقاء فى دمشق. أما عسكريا، فخلافا للموقف السوفييتى حيال مصر، دشنت الولايات المتحدة، منذ اليوم الرابع لاندلاع المعارك، أضخم جسر جوى عرفته المنطقة، لنجدة إسرائيل وإنقاذها من الهزيمة النكراء. وفى مطار العريش القريب من مسرح العمليات، كانت طائرات النقل الأمريكية العملاقة تهبط مكدسة بمختلف الأسلحة الحديثة، ومزودة بطواقمها الفنية. ولم تتورع القوات الأمريكية عن تجربة أحدث منظوماتها التلسيحية فى ميادين القتال. فضمن سياق محاولاتهم المستميتة لتحييد الدفاعات الجوية المصرية المرعبة، استخدم الأمريكيون صواريخ «القنبلة التلفزيونية»، التى لا قبل للعالمين بها. كما استخدموا قنابل «المافريك» الفتاكة فائقة التطور، وغيرها من الأسلحة، التى لم تكن تعرفها الحروب التقليدية، فى حينها.
هنالك، اضطر السادات إلى إعادة تقويم الأوضاع، مرجعا قبوله وقف إطلاق النار، إلى ما طوته عباراته الموحية والخالدة: «إنى لا أخشى مواجهة إسرائيل، بعدما أثبتت قواتنا المسلحة للعالم أجمع براعة تخطيطها، وبرهنت على شجاعتها، وأكدت كفاءتها القتالية. غير أنى أرفض المواجهة غير المتكافئة مع أمريكا.. ولن أسمح بتدمير الجيش المصرى مرة أخرى.. وإننى مستعد أن أحاسب أمام شعبى فى مصر، والأمة العربية جمعاء عن هكذا قرار».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved