البعثة المحمدية وتوزيع الثروات

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 18 أكتوبر 2021 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

اليوم تحل ذكرى المولد النبوى الشريف، الذى تختلف مظاهر الاحتفال به بين شعوب المسلمين باختلاف العادات والموروثات. لكننى رأيت أن أحتفى معك أيها القارئ الكريم بهذا اليوم العظيم بطريقة مختلفة، من خلال التعرض لبعض النفحات النبوية المشرفة وآثارها الاقتصادية على أمة الإسلام وعلى سائر الأمم التى تأثرت بتلك البعثة المحمدية المتفردة.
منذ أقام الرسول (ص) مجتمع المدينة المنورة على أسس مثالية عز أن تجد لها مثيلا فى التاريخ البشرى إلا فى الكتابات النظرية لقدامى فلاسفة الإغريق مثل أفلاطون وأرسطو، فقد حرص على المؤاخاة بين المهاجرين من أهل مكة والأنصار من أهل يثرب. وقد انطوت تلك المؤاخاة الاستثنائية على جوانب اقتصادية هامة ترتب عليها إعادة توزيع الثروة والدخل بصورة طوعية بين المهاجرين والأنصار. يقول الدكتور عبدالرحمن يسرى فى كتابه «تطور الفكر الاقتصادى»: «فقد تنازل الأنصار طواعية ومحبة بموجب هذه الأخوة الصادقة عن جانب من ثرواتهم أو أصولهم الإنتاجية لإخوانهم من المهاجرين. ولقد اتخذ هذا التنازل صفة دائمة فى بعض الأحيان وصفة مؤقتة فى حالات أخرى. ومن ضمن ما عرض الأنصار على النبى (ص) أن يقسم النخيل بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، ولكنه رفض هذا العرض منهم حيث يعنى التنازل عن أهم شكل من أشكال الثروة الزراعية لديهم. وربما أن الرسول (ص) كان يرى بعين النبوة الصادقة أن الأمور ستتغير إلى الأحسن وأن أبوابا جديدة للرزق سوف تفتح مستقبلا على الجميع».
وإذا كان توزيع الثروات وما زال من أهم المشكلات التى تؤرق الاقتصاديين عبر العصور، ويعد إغفاله أو عدم التصدى له كما ينبغى من أبرز نقاط الضعف عند غالبية المدارس الاقتصادية. فإن مدينة الإسلام الأولى قد أقيمت على مبادئ العدالة الاجتماعية، دون انقضاض على الملكية الفردية أو تدمير لعوامل الإنتاج. وقد أرست البعثة النبوية دعائم نظام العدالة فى توزيع الثروات على فريضة الزكاة وفضيلة الصدقات والقرض الحسن والإعذار فى الدين (فنظرةٌ إلى ميسرةٍ) والوقف الخيرى. ثم نزل قوله تعالى «لَن تَنَالُوا الْبِرَ حَتَىٰ تُنفِقُوا مِمَا تُحِبُّونَ» فتصدق الصحابى أبو طلحة ببئر ماء كانت أحب الأموال إليه، واشترى عثمان بن عفان بئر رومة وتنازل عنها للمسلمين رضوان الله عليهم جميعا.
***
كذلك فقد امتثل المسلمون فى مجتمع المدينة المنورة لأمر الرسول (ص) بالوفاء بحق الأجير حيث قال فى الحديث الشريف الذى رواه ابن ماجة وأخرجه المنذرى فى الترغيب والترهيب: «أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه» أو كما قال فيما رواه البخارى وابن ماجه وغيرهما: «إن رب العزة تبارك وتعالى يقول: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره» فكان ذلك أيضا دعامة هامة فى توزيع الدخول والثروات، إذ كان عنصر العمل يؤجر بعدالة والتزام، بما ينطوى عليه ذلك من خلق للطلب الفعال. يقول الله تعالى فى سورة الأعراف: « وَلَا تَبْخَسُوا النَاسَ أَشْيَاءَهُمْ» ومن تفسيرها أنها نزلت فى إنصاف الأجراء، وعدم التعدى على حقوقهم المادية.
ثم إن توزيع الثروات يختل بشكل كبير إذا ما شابت المعاملات المالية الربا، فجاء الإسلام مؤكدا على تحريم الربا الذى نزلت به شرائع سماوية وأحكام فلسفية ووضعية قبل الإسلام بقرون. وأقر الإسلام بدائل للتمويل والاستثمار تقوم على المشاركة فى المخاطر ومبدأ «الغرم بالغنم». وأقر المسلمون نظام المزارعة للمشاركة فى ثمرة الناتج الزراعى بين مالك الأرض ومن يزرعها، وفى ذلك يقول الدكتور عبدالرحمن يسرى فى ذات الكتاب: «ويلاحظ أن جميع العقود أو الاتفاقات بين من يملكون عناصر الإنتاج ومن يستخدمونها والتى تدخل بشكل مباشر فى تحديد الكيفية التى يتم بها توزيع الدخل، كانت تتم من خلال السوق التنافسى الحر، وتلتزم بقاعدة التراضى بين المتعاقدين على شروط محددة فى إطار الشريعة، قال (ص): المسلمون عند شروطهم (البخارى ومسلم)».
كما يلفت ابن قدامة فى كتابة «المغنى» إلى وجوه متعددة لتوزيع الثروة بينها المساقات والإجارة وإحياء الأرض الموات والعقود المتوافقة مع الشريعة، مثل السلَم والوكالة والقرض والرهن والوقف. كما أولت الشريعة اهتماما كبيرة بأحكام المواريث، وجاءت الآيات مفصلة فى هذا الباب، ولا يخفى على أحد أهمية الميراث فى توزيع الثروات بين الناس.
***
إذن لم يشهد التطبيق العملى لتعاليم الإسلام فى جانب توزيع الثروات ما تشهده نظريات الاقتصاد الحديثة من تنافر بين الفكر المنحاز إلى عنصر العمل، وذلك الذى تقوم فلسفته على الانحياز التام إلى رأس المال. ذلك لأن المجتمع الأول للمسلمين قد أدرك حرمة رأس المال الذى يحل للمسلم أن يموت دونه شهيدا أو يدافع عنه جهادا، لكنه يؤمن أيضا بقاعدة الاستخلاف التى تجعله خليفة على ماله الخاص، وأن المالك الأصلى لهذا المال هو الله عز وجل. فالمسلم وفقا لتلك القاعدة يحق له التصرف فى ماله الخاص، ولكن وفقا لضوابط الشريعة التى تجعل لله وللمجتمع حقا فى إنفاقه وتوزيعه، بعيدا عن الإسراف والبذخ والشح والاقتار وأكل الأموال والربا ومنع الزكاة والصدقات وإلحاق الضرر بالآخرين.
وإذا كان مجتمع المدينة الإسلامية الفاضلة لم يدم إلا سنوات قليلة قدرها البعض بالفترة الممتدة منذ الهجرة النبوية المشرفة وحتى انتهاء عصر الخلافة الراشدة (عام 41هـ الذى وافق تنازل الحسن بن على لمعاوية بن أبى سفيان عن الخلافة وبداية الملك العضوض للدولة الأموية)، فإنه يبقى شاهدا على صحة النظرية وقابليتها للتطبيق. طول الفترة الزمنية هو مسألة نسبية تخضع للتقدير والقياس، فكل حقبة زمنية مهما طالت تظل قصيرة فى عمر الخلق، وإذا أراد الله تعالى أن يقيم حجة فإنه يقيمها فى أى مكان وزمان، لتبقى حية نابضة شاهدة على قدرة الرحمن، وانتصار موعود للحق والعدل مهما ظهر الظلم وانتشر الفساد.
وإذا كانت أية نظرية اقتصادية أو اجتماعية تصح بصحة فروضها، فإن بعض الفروض يكون تحققه فى أرض الواقع مستحيلا أو منقوصا مثل فروض حرية تنقل العمالة بين الأسواق، وامتلاك المعلومات، ورشادة المستهلك... لذا كان من الضرورى أن يتحقق نموذج عدالة التوزيع فى أول مدينة يقيمها النبى محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم) على أسس واقعية مطبقة بالفعل، ومحققة لمجتمع سعيد ينعم بالرفاهة والحرية المنضبطة بالتزام الفرد تجاه مجتمعه، والتزام المجتمع تجاه أفراده. وقد كان للإمام على (رضى الله عنه) اجتهادات دقيقة فى العديد من المسائل الاقتصادية، ومنها ضرورة الإنفاق الكامل للموارد المتجمعة فى بيت مال المسلمين على المسلمين مهما كان حجم تلك الأموال. وارتبط ذلك بفهمه لفكرة دوران المال فى النشاط الاقتصادى، وأن حبسه يؤدى إلى الكساد. وأولى الإمام على كرم الله وجهه اهتماما كبيرا بمسألة العدالة فى توزيع موارد بيت المال، خاصة بين الفقراء وأصحاب الحاجات. وكان يحض الجباة على الاعتدال فى جمع الزكاة من الناس والترفق بأحوالهم، بما لذلك من أثر على زيادة الإنتاج والثروات ومن ثم زيادة موارد الدولة وبيت مال المسلمين، وكلها مبادئ عرفها الاقتصاد الحديث وعملت بها أنظمة الدول المتقدمة واستفادت منها.
كان هذا ملمحا واحدا لأثر البعثة المحمدية على البشرية، وفى الآثار الاقتصادية للبعثة يمكن أن نكتب المجلدات دون أن نحصيها، وفى غيرها من آثار وثمار ما يُعجِز القلم عن الرصد والتدوين، وصدق الله العظيم إذ يقول فى محكم التنزيل: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved