دولة تحت الوصاية
يحيى عبد الله
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
للإدارات الأمريكية المختلفة، سجل كبير فى فرض إرادتها على إسرائيل، وإجبارها على تنفيذ ما يخدم السياسة الأمريكية، فى المقام الأول. نذكر من ذلك، تهديد الرئيس الأمريكى، أيزنهاور، رئيس الحكومة الإسرائيلية، دافيد بن جوريون، بفرض عقوبات قاسية على إسرائيل، وحجب المساعدات عنها، إذا لم تنسحب من شبه جزيرة سيناء بعد العدوان الثلاثى على مصر عام 1956م.
تدخل أيزنهاور بعد أن تهددت المصالح الأمريكية فى المنطقة، وبعد أن هدد الاتحاد السوفيتى (سابقًا) بالتدخل عسكريًا ضد دول العدوان الثلاثى، ما هدد بحرب عالمية ثالثة؛ ومن ذلك، أيضًا، إرغام الرئيس الأمريكى، جورج بوش الأب، رئيس الحكومة الإسرائيلية، يتسحاق شامير، على عدم الرد على الصواريخ التى أطلقها العراق، خلال حرب تحرير الكويت (1991م)، أو ما يُعرف بحرب الخليج الأولى، على إسرائيل، خشية انفراط عقد الائتلاف، الذى شكله بقرار من مجلس الأمن، وخشية تصوير الحرب على أنها حرب بين العراق وإسرائيل؛ فضلا عن تهديده بحجب ضمانات القروض الأمريكية عنها (عشرة مليارات دولار) إذا لم يحضر مؤتمر مدريد للسلام فى الشرق الأوسط، الذى أعقب الحرب.
لكن، تدخل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على خط الحرب فى غزة، وفرضه خطة سلام على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مثلما صرَّح، غير مرة (قال فى حديث مطول لمجلة «تايم»: «أوقفته -يقصد نتنياهو- كان يمكن للأمر -الحرب- أن يستمر لسنوات. قلت لـ بيبى إن العالم تعب من الحرب. لن تستطيع أن تحارب العالم. العالم ضدك وإسرائيل مكان صغير جدًا»)، وإيفاده، حتى، مسئولين أمريكيين رفيعى المستوى، الواحد تلو الآخر، إلى إسرائيل، ليشرفوا على التزام إسرائيل بتنفيذ بنود المرحلة الأولى من الخطة، أمر غير مسبوق فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.
• • •
لولا «الضغط الأمريكى، أو الإملاء، والفرض»، كما يقول بن درور يمينى، لما حدث وقف للحرب ولما عاد الأسرى الإسرائيليون. يرى كثير من المحللين الإسرائيليين، أن تدخل ترامب، بهذا الشكل، يمثل نوعًا من فرض الوصاية على إسرائيل. بل إن قطاعًا من الأمريكيين يرون ذلك أيضًا، إذ يشير استطلاع للرأى، أجرى فى ولاية نيويورك، فى أعقاب فرض ترامب لخطته على نتنياهو، إلى أن 48% من سكانها يرون أن إسرائيل أصبحت دولة خاضعة لوصاية أمريكية.
وقد عبَّر زعيم يهودى أمريكى، معروف بقربه من دوائر البيت الأبيض، عن ذلك بقوله: «كان لكل رئيس أمريكى فى العقود الأخيرة مطالب من رئيس حكومة إسرائيل؛ ومَنَع رؤساء أمريكيون رؤساء حكومات إسرائيلية من انتهاج سياسة أو تنفيذ إجراءات فسرها البيت الأبيض على أنها تتعارض مع السياسة الأمريكية، أو مع وجهات نظر الرئيس، لكن رئيسًا أمريكيًا لم يعين مسئولًا أمريكيًا رفيعًا ليشرف بشكل مباشر، وكاسح وحاد، على تنفيذ وتطبيق الحكومة الإسرائيلية لخطته مثلما فعل ويفعل الرئيس ترامب»؛ مشيرًا إلى أن ترامب قوَّض وضع إسرائيل واستخف بها كدولة مستقلة.
يتفق البروفيسور زكى شالوم، مع الرأى السابق فيما يخص الانتقاص من استقلالية قرار المستوى السياسى فى إسرائيل، إذ يقول إن الاحتكاك المكثف لمسئولى الإدارة الأمريكية مع رؤساء الأجهزة الأمنية فى إسرائيل من وراء ظهر المستوى السياسى يمس، بقوة، بصورة دولة إسرائيل كدولة مستقلة وقوية، مشيرًا إلى أن نتنياهو يبذل جهودًا كبيرة ليثبت أن إسرائيل ليست دولة خاضعة للوصاية الأمريكية، وأنها هى من ستقرر كيف تحقق أهدافها الأمنية. بيد أن المشكلة أن الكلمات لا تكفى فى مثل هذه الظروف"؛ مطالبًا إسرائيل بأن تثبت استقلاليتها عبر أفعال، وليس عبر أقوال، وتصريحات، فى مواجهة الإدارة الأمريكية، وإلاَّ فقدت مكانتها القوية لدى الإدارات الأمريكية؛ وهو ما يسميه، مايكل أورن، السفير الإسرائيلى السابق لدى واشنطن، "الثمن الذى دفعته إسرائيل من سيادتها، بعد السابع من أكتوبر"، قائلًا: «لم يكن لزعمائنا، قط، فى تاريخ أمتنا، حرية أقل فى اتخاذ القرار، ولا لجيشنا حرية عمل أقل محدودية».
ينظر أورن إلى خطورة ما فعله ترامب ليس من زاوية استقلالية القرار السياسى الإسرائيلى فقط، وإنما من زاوية تقييد حرية إسرائيل فى العمل عسكريًا، أيضًا، قائلًا: «ثمة فارق مهول بين أن تتلقى أمرًا بوقف القتال، وضرورة الحصول على تصديق فى كل مرة يتوجب فيها على إسرائيل أن تعمل (عسكريًا فى غزة). ثم شعورٌ بأن إسرائيل يجب أن تحصل على ضوء أخضر من واشنطن إذا أرادت القيام بعمل عسكرى محدود فى غزة». هذا وضع غير مسبوق، ليس لإسرائيل فقط، وإنما لكل دولة ذات سيادة. هذا هو الوضع اليوم، فى ظل وجود 200 جندى أمريكى فى «كريات جات»، وطائرات أمريكية مسيرة تحلق فوق غزة، وجنود من فرنسا وكندا، اللتين لم تكونا ودودتين تجاه إسرائيل بخاصة، ومن إسبانيا المعادية. هم هنا للإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار، وضبط رد فعل إسرائيل.
فى هذا الصدد، يشير دورون هدار، القائد السابق لوحدة إدارة الأزمات بالجيش الإسرائيلى، إلى أن النشاط المكثف للقيادة الأمريكية فى "كريات جات" على حساب مراكز القيادة العسكرية الإسرائيلية يثير «صعوبة من ناحية قدرة السيطرة على العملية وبلورة المصالح القومية»، الإسرائيلية، وإلى أن الآلية الحالية، التى تعرف فيها إسرائيل بالخطط بعد بلورتها فقط "تقلص قدرتها على التأثير على تخطيطها بشكل كبير".
• • •
يتهم كثيرون رئيس الحكومة الإسرائيلية، وحكومته المتطرفة، بأنهما السبب فى وصول الأمور إلى هذا الحد، خاصة وأنهما لم يعترضا، ولم يحتجا، حتى، على أن يدير مسئولون أمريكيون رفيعو المستوى أمور إسرائيل، ولا حتى، على أن يقام فى "كريات جات"، بقلب إسرائيل، "فرع لوزارة الدفاع الأمريكية، "البنتاجون"، كما يقول إفرايم جانور، تحت مسمى "القيادة الأمريكية"، التى ستشرف على تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، والتنسيق بين الدول المنخرطة فى الحفاظ على ترسيخه، وفى البدء فى إعمار القطاع، وتحديد الإطار الأمنى لنشر القوات الدولية ومنظومات الإشراف والسيطرة على القطاع؛ وهو ما عبَّر عنه، جلعاد شارون، بقوله: "لقد أوصلتنا حكومة نتنياهو إلى نوع من فقدان الاستقلالية- أحدٌ ما آخر يقرر بالنيابة عنا (...) شئوننا الأمنية تدار من القيادة الأمريكية فى "كريات جات". كل يوم يأتى مسئول أمريكى ليتأكد من أن حكومة الوصاية فى المملكة تنفذ بشكل دقيق توجيهات المندوب السامى (الأمريكي)".
من ناحية ثانية، يتهم، إفرايم جانور، حكومة نتنياهو بأنها سببت ثلاث كوارث للإسرائيليين: هجوم السابع من أكتوبر 2023م، الذى يرى أنه الأفظع منذ المحرقة النازية، وتغيير وجه الدولة الإسرائيلية إلى الأسوأ، من خلال التدخل فى عمل المنظومة القضائية، وسن تشريعات أولية تحد من حرية الإعلام، ثم فشلها فى تقديم خطة برجماتية، وموضوعية لليوم التالى فى غزة، مفسحة المجال فى ذلك للرئيس الأمريكى دونالد ترامب. يجزم جانور أن العجز المطلق للحكومة ورئيسها، حوَّل إسرائيل إلى الولاية الحادية والخمسين للولايات المتحدة الأمريكية، ورغم كل جهود نتنياهو فى طمس وتحريف الحقائق والواقع، فإنه يخضع لهيمنة أمريكية كاملة، تملى عليه وعلينا جميعًا، بشكل سافر وواضح، جدول الأعمال الأمنى والسياسى.
لكن، بن درور يمينى، يتهم نتنياهو، شخصيًا، بأنه خلق سابقة خطيرة. خلق تعارضًا تامًا بين شروطه لوقف الحرب وما حدث بالفعل. خلق سابقة لإملاء (أمريكي) لاقى إذعانًا (إسرائيليًا) تامًا. سابقة تحول إسرائيل إلى جمهورية من جمهوريات الموز. حدث هذا لأن نتنياهو أخفق فى فعل ما هو جيد لإسرائيل. إذ أعمته المصالح السياسية الشخصية عن المصالح القومية.
السؤال: هل سيؤثر ما يراه كثير من المحللين الإسرائيليين بأنه "سابقة" فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية على مسار هذه العلاقات فى المستقبل؟ من المؤكد، أنها ستؤثر، خاصة فى ظل الشواهد التى تشير إلى تغيير ما فى المزاج الأمريكى العام تجاه إسرائيل. وهو ما يشير إليه، نير كيبنيس: «إذا نجحنا، أيضًا، فى أن نظل الصديقة المحببة للرئيس، فإن هذه العلاقة، التى توفر لنا مالًا، وأسلحة، وتمنع فرض عقوبات على إسرائيل من خلال استعمال حق النقض -الفيتو- علاقة فى الوقت الضائع. ما الذى بوسعنا أن نفعله؟ أن ندعو، بخاصة، بأن يتخذ من يتخذ القرارات بالفعل قرارات تصب فى صالح المصلحة الإسرائيلية».
لكنى، أرى، أن ما يراه البعض وصاية، أو تدخلًا فى السيادة الإسرائيلية، أو انتقاصًا من استقلاليتها، أو تقييدًا لحريتها فى العمل العسكرى، هو، فى واقع الأمر، تدخل لإنقاذ إسرائيل من تهور بنيامين نتنياهو وحكومته، المتطرفة، ولوقف تدهور صورتها على الساحة الدولية، ولترتيب الأوضاع لصالحها، إن فى غزة، بخاصة، وإن فى الإقليم بعامة.
يصب هذا التدخل، فى نظرى، فى مصلحة إسرائيل، وليس العكس. لقد كشف ترامب، فى أكثر من حديث تليفزيونى وصحفى، أنه دفع نتنياهو دفعًا لقبول وقف الحرب، ليس حبًا فى أهل غزة، بالطبع، وإنما منعًا لمزيد من التدهور فى صورة إسرائيل على الساحة الدولية، كما يعود الفضل إليه، وحده، فى إعادة الأسرى الإسرائيليين -أحياءً وأمواتًا- إلى إسرائيل بعد أن عجزت عن إعادتهم بالوسائل العسكرية.
أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة