تقاليد وعادات.. زيارة الذين غابوا
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
إن نسيت من الماضى أحداثًا ومناسبات للحزن أو الفرح، أو لهما معًا، فلن أنسى زياراتنا الممتدة إلى مقابر العائلة فى منطقة مدافن باب الفتوح. أعرف أنه فى جهة ما من جهات الحكومة من يحاول طمس ما حملت ذاكرتى وذاكرة آخرين؛ أحداثًا عشناها وأماكن شقناها وأناسًا عاشرناهم. تمنيت لو توقفت المعاول، حتى لو حسنت نواياها، عن هدم معالم حزن ناعم مارسناه بفرح أيضًا ناعم. تمنيت لو تركوا لأطفال هذه الأيام فسحة فى زمنهم تعيش معهم ضمن ذكريات عن متع نادرة.
• • •
كانت أيامنا السابقة على حلول الأعياد أيام سعادة لا تقل فرحة عن الأعياد نفسها. نخرج، أمى وأنا وشقيقتى الصغرى، إلى شارع فؤاد لنشترى ملابس العيد، أما احتياجاتنا المنزلية الضرورية للمناسبة كالدقيق والسكر والزيوت فكانت عند البقال تطلبها أمى وتدفع ثمنها ليحملها صبى المحل ويصحبنا بها إلى بيتنا. احتياجات أخرى ومنها المربات والمفتقة والحلبة لزوم التسمين ومنها أيضا السمنة البلدية والمكسرات وبخاصة الزبيب ومنها أنواع شتى من المخللات ومنها الأرز، كلها وغيرها كثير كانت ضمن المخزون الذى يتجدد مرة فى السنة ومكانه «الصندرة» المختفية فى سقف المطبخ أو «النملية» المتصدرة أحد جوانبه.
• • •
يشهد بيتنا فى الليالى السابقة على المناسبة الدينية مشاركة الجارة الأقرب وشقيقاتها والمتطوعات من خدم العمارة وأم سيدة الشغالة والقادمة خصيصًا من الريف، وغيرهن فى صنع العجين اللازم لمخبوزات تسمى "المنين" والشليك وفى قول آخر «الشريك» ولا أنسى الاشتباكات الكلامية الظريفة التى كانت تشتعل كل مرة بسبب الاختلافات حول «النطق» الصحيح لهذا المنتج الفاخر من مخبوزات زيارة المقابر فى الأعياد. لم يبخل المذياع بدور له فى إثارة البهجة بإذاعة الأغانى المناسبة وكنا، وأقصد الأطفال، كما قالت إحدى الجارات، زينة الليلة. نصول ونجول بين شقق العمارة فى انتظار عودة «الصوانى» من فرن الحى.
• • •
تجتمع كل المخبوزات من بيوتنا لتتوجه قبل يوم أو يومين إلى بيت العائلة بالجمالية استعدادا لنذهب جميعا إلى المقابر. هناك فى البيت الكبير تتولى إحدى الشقيقات، أقصد إحدى خالاتى، مسئولية إدارة المطبخ حيث يجرى إعداد ما يكفى لإطعام العشرات من أفراد العائلة والأقارب والأصدقاء الزائرين وعشرات آخرين من ذوى الإعاقة وفقراء الحى ومن عائلة أو عشيرة المسئول عن خدمة المقبرة وحمايتها من غزو الأغراب وبخاصة لصوص الجثث.
• • •
فى اليوم الموعود تتحرك القافلة من البيت الكبير فى طريقها إلى حى المقابر الواقع خارج باب الفتوح فى نهاية شارع المعز مارة بسوق الزيتون والليمون. تقود القافلة عربة حنطور تستقلها الجدة «نينا جمال» والشقيقات الأربع، تليها عربة أخرى وعلى متنها شباب وأطفال من الجيل الثانى، بعدها عربة «كارو» تحمل صندوقًا بدا لى وقتها هائل الحجم حتى إن أربعة رجال أنزلوه من البيت ليضعوه فوق العربة ومعه «زكايب وأجولة» ممتلئة بثمار فواكه الموسم وأكياس محشوة بشتى أنواع التمور ومعها لحمايتها خلال الطريق عدد لا يحصى من الشغالات وأغلبهن تحت سن الخامسة عشرة. وكالعادة ما اجتمع على ظهر عربة «الكارو» نساء وفتيات إلا وارتفعت أصواتهن مع إيقاع «الطبلة» بمزيج من الأغانى الشعبية المرحة أو بما له علاقة بالمناسبة.
• • •
أجواء السعادة هى الغالبة فى الموكب. الفتيات، كلهن دون استثناء، فى جلاليب وفساتين ملونة بألوان الفرح والمرح. كل راكبة على عربة الفتيات معها علبة وصندوق من الورق محشو بشتى أنواع الحلوى المصنعة منزليًا. الكل مشارك فى الغناء والتصفيق الإيقاعى المصاحب لمثل هذه الأغانى والأهازيج. بينهن من تمنى النفس بعيدية كبيرة فى اليوم التالى، وأخرى أصغر فى العمر، وليس كثيرا، تحلم بركوب «المراجيح» والارتفاع بها إلى أعلى حيث تنتبه مرة بعد أخرى، وهى لا تبالى، إلى أن فستانها الطائر معها سلب ألباب مراهقى الحى المتجمعين حول الأرجوحة.
• • •
المنظر داخل المقبرة لا يقل حركة ونشاطًا. يأتى متعهد الكراسى وصبيانه ينقلون حمولة عربتهم من كراسى وموائد صغيرة وطفايات سجاير، هؤلاء الصبيان يحلمون ببقشيش مناسب يليق بخروجهم المبكر للعمل فى يوم عيد. رجل من خارج المقبرة «يكح» بصوت عالٍ، كحة أو أكثر مصحوبة بطلب الستر من «الستار الأعظم». إنه «السقا» حاملًا «قربة» المياه ليفرغ بعضها فى الزير، وبعضًا فى الزير الآخر الكائن فى غرفة انتظار النساء، يتدلى إلى جانب كل زير «كوز» بحجم مناسب.
• • •
ينتصف النهار الأول وقد امتلأت القاعات والحوش بالزوار، وفى وسطهم كرسى مخصص لصبى أو كهل أو ما بينهما فى العمر، يأتون معممين أو مكشوفى الرءوس، يتربعون عليه دون استئذان ويشرعون فى تلاوة آيات من الذكر الحكيم. لاحظنا، ولم نتكتم، أن أغلبهم يتلون الآيات نفسها، وأن عددًا منهم يخطئون ويزيفون، فالآيات هى من ضمن ما نحفظه نحن الأطفال فى مدارسنا ونتلقى من أجل حفظه ضربات من عصا رفيع يحملها دائمًا مدرس الدين.
• • •
كثيرًا ما كنا نستدعى من الشارع لتجرى لنا أو علينا أمهاتنا أو من تحل محلهن عملية إعادة نظر أو التأكد من نظافة وجوهنا وأيدينا و«هدومنا». نعرف فورًا أن شخصية كبيرة سوف تحل على المقبرة فى زيارة خاطفة للتعاطف أو للدعاية. سرعان ما ينتشر الخبر فيمتلئ الشارع بالكبار والأطفال من أهل الحى ليكونوا فى استقبال معالى الباشا ورفاقه.
• • •
ممارسات أكثرها موروث عن قدمائنا. نخطئ إن كنا نخجل من حقيقة أن أجدادًا ابتكروها وأجدادًا مارسوها وأحفادًا يمارسونه، هدفهم إحياء الذكرى وتأكيد الانتماء وتخفيف الحزن على غياب الغاليين والشوق لهم ببعض الفرح.